الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون

                                                          * * *

                                                          يذكر القرآن أخلاق بني إسرائيل في ماضيهم الممتدة في حاضرهم ، إذ قد اتصف بها حاضرهم كما اتصف بها ماضيهم ، وهو الإنكار لكل ما يجيء به نبي من الأنبياء ، فيذكر الله سبحانه وتعالى ما تلقوا به ما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من آيات بينات .

                                                          الآيات البينات هي القرآن ، وقد فسر بعضهم الآيات بالآيات الكونية ، وإن ذلك بعيد ، لأن وصف الآيات بالبينات دليل على أنها الآيات المتلوة ، وهي بينة ; لأن الكتاب بين واضح في ذاته ، وواضح الدلالة على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونلاحظ إشارة بيانية في الدلالة على أنه معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي قوله تعالى : أنـزلنا إليك بالتعدية بـ " إلى " دون التعدية بـ " على " إذ كان التعبير في غير هذه بالتعدية بـ " على " ، كقوله تعالى : نـزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين وكانت التعدية للدلالة على أن النزول والرسالة هي متجهة إلى [ ص: 332 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا النبي الأمي المقصود بالرسالة ، وكان حقا عليهم أن يتبعوه بمقتضى البشارة التي بشرت به التوراة والإنجيل .

                                                          وقوله تعالى : ولقد أنـزلنا إليك إشارة إلى أن هذه البينات وحدها فيها الدلالة على صدق ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهي المعجزة الكبرى التي تحدى بها عباده أجمعين ، الجن والإنس والأجيال كلها قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وقد جاءت على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - خوارق للعادة حسية كثيرة ، ولكنه لم يتحد المشركين وغيرهم أن يأتوا بمثله إلا بالقرآن ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي إلي ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " .

                                                          وكانت المعجزة من هذا النوع ; لأن رسالة محمد خاتمة الرسائل الإلهية ، وهو خاتم النبيين ، فكانت من نوع الكلام الذي يبقى متحديا الأجيال كلها حجة قائمة إلى يوم القيامة . .

                                                          ولقد أكد الله تعالى نزول القرآن باللام وقد ، فقال تعالى : ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات ولكن كفروا وما يكفر بها إلا الفاسقون أي المتمردون في الكفر الخارجون عن كل حد ، إذ إنها آيات واضحة شاهدة بصدق ما جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فالفاسق الكافر المتمرد الخارج عن كل حد ، وقد قال الحسن البصري : إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي ، وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره ، فالفاسق الكافر أشد أنواع الكفر ; لأنه تمرد على كل معقول .

                                                          وقوله تعالى : وما يكفر بها إلا الفاسقون نفي وإثبات للدلالة على أن الكفر بهذه الآيات البينات لا يمكن أن يقع من إنسان فيه الفطرة الإنسانية ، بل لا يقع فيه [ ص: 333 ] إلا المتمرد على الفطرة وعلى كل ما يتقاضاه العقل المدرك ، واللام في الفاسقون للجنس ، وليس المراد بها قوما معهودين ، وإن كان أشد من ينطبق عليه الأمثال اليهود الذين كفروا بها . وإن اليهود إذا كانوا فسقوا ، وكفروا بالقرآن الكريم معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهم قد نقضوا العهد الذي عاهدوا الله تعالى عليه في الميثاق الذي أخذ عليهم ، وناقضوا أنفسهم ، إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .

                                                          فإذا كانوا قد كفروا بالكتاب الذي جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقد نقضوا عهدا أخذ عليهم مرارا ، نقضوا الميثاق الذي أوجب تعالى عليهم أن يؤمنوا برسله ، ونقضوا العهد الذي أخذوه على أنفسهم إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا ، ولما عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - الميثاق بينهم وبينه عندما هاجر نقضوه جميعا ; فنقضه بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير وأوى الناقضون إلى خيبر ، وشنوها حربا مشبوبة على المؤمنين .

                                                          وقد بين الله تعالى أن ذلك شأنهم ، فقال : أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم الهمزة للاستفهام الإنكاري لإنكار الواقع ، وهو ما يقع منهم من نقض العهد ، ونبذ للمواثيق ، والواو عاطفة وهي مؤخرة عن تقديم ، لأن الاستفهام له الصدارة دائما ، والمعنى أنكروا الكتاب والنبي الذي عرفوه كما يعرفون أبناءهم ونقضوا الميثاق ، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم إلى آخر الآية ، وتأخير العاطف عن الاستفهام كثير في القرآن من مثل قوله تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وقوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون وهكذا مثل ذلك كثير في القرآن المبين .

                                                          [ ص: 334 ] أوكلما عاهدوا 100 ) تدل على نقض العهد بين طرفين ، وأكثر ما تكون عهود اليهود بين رب العالمين وبينهم ، والعهد الذي يكون بين طرفين لا ينقض إلا بتراضيهم ، ولكنهم لا يلتزمون بذلك ، بل ينفردون بالنقض . أو بعبارة أدق لا يعرفون معهودهم ، وقال تعالى : نبذه فريق منهم النبذ الطرح والرمي ، ومعناه في العهود ، نبذ الوفاء وطرحه ، من غير موجب ولا مراعاة ذمام ، ولم يجز القرآن النبذ إلا عند الخيانة ، كما قال تعالى : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين

                                                          ونسب سبحانه وتعالى النبذ إلى فريق منهم ولم ينسبه إلى جميعهم ، لأن الله العدل الحكيم لا يقرر إلا ما هو عدل حكيم ، وقد سكت سبحانه عن موقف الفريق الآخر فهل مالأه ؟ الظاهر أنه إن لم يمالئ فلم يستنكر ، ولم يمنع وهو قادر على المنع ; ولذا يصح أن ينسب إلى جميعهم إذ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، لبئس ما كانوا يفعلون ، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقوله : بل أكثرهم لا يؤمنون فـ " بل " هنا للإضراب ودفع معنى يتوهم من قبل ، وهو أن أكثرهم فاضل ، ومانع لهم من الشر ، وذلك لقوله تعالى : نبذه فريق منهم فبين سبحانه أن كثرتهم لا يؤمن بالحق فقال تعالى : أكثرهم لا يؤمنون فنفى سبحانه وتعالى عنهم أصل الإيمان بشيء من الفضيلة أو الخلق فبعضهم يمعن في الشر إمعانا والآخرون يسكتون ولا يتحركون لأن الأكثر لا يؤمنون ، فكل من كان على مثل حال هؤلاء اليهود كان كل كلامه وأفعاله لا يصدر عن قلب مؤمن مذعن للحق . وإذا كانوا لا يؤمنون بكتاب الله تعالى الذي أنزل متجها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم أيضا لا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، مع ما كان منهم قبل أن يبعث - صلى الله عليه وسلم - ، وينبذون كتابه .

                                                          ولذا قال الله تعالى : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله

                                                          قوله : ولما جاءهم رسول من عند الله التعبير بـ لما دليل على أنهم كانوا يتوقعون مجيئه ، وقد كانوا يتوقعون ذلك ويعرفونه ويستفتحون على الذين كفروا ، [ ص: 335 ] وعبر سبحانه بـ " رسول من عند الله " للإشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي أنعم عليهم بالنعم المتوالية ، و " رسول " التنكير فيها للتعظيم ، أي رسول بالغ أقصى درجات الفضل وقد اختاره الله تعالى .

                                                          وقد وصفه الله تعالى بأنه مصدق لما معهم ، وتصديقه لما معهم من ناحيتين .

                                                          الناحية الأولى : أنه قد جاء بالتكليفات الكثيرة التي جاءت في المواثيق التي أخذها الله تعالى عليهم ، والناحية الثانية أنه تصديق للبشارات التي جاءت بها كتبهم ، وقد بشرت به في عدة نصوص منها ، كما أشار القرآن الكريم في مثل قوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنـزل معه أولئك هم المفلحون ومثل قوله تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا

                                                          هذا هو معنى التصديق ، وليس التصديق الإقرار بصدق ما حرفوا وبدلوا حتى يقول ذلك الذين لا يفهمون ، فإن القرآن يفهم بعضه ببعض ، وقد كفرهم ، وسجل التحريف عليهم ولا يزالون يغيرون ويبدلون .

                                                          ولما جاءهم محمد - رسول الله - نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله أي طرحوه ، وهو يدل على أنهم لم يأخذوا به ، ونبذوا تعاليمه ، وراءهم ظهريا ، وعبر الله تعالى بالذين أوتوا الكتاب توبيخا لهم ، وتنديدا بفعلهم فإنهم كانوا جديرين بأن يكونوا أول من يأخذ بالكتاب لا أن ينبذوه ويجعلوه وراء ظهورهم ، ودبر آذانهم . والكتاب الذي نبذوا تعاليمه وجعلوه وراء ظهورهم كما هو السياق يدل على أنه القرآن ; لأنه هو الذي جاء به الرسول الكريم ، الذي جاء به مصدقا لما معهم .

                                                          وقال بعض المفسرين : إن المراد بكتاب الله التوراة ، أي أنهم نبذوا بشاراته بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهورهم ، ونرى أن ذلك بعيد ، ولم نجد ذكرا للتوراة في هذا المقام ، ولأن الكلام في محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وما جاء به .

                                                          [ ص: 336 ] وقوله تعالى : وراء ظهورهم مثل لمن يستغني عن شيء ، فإنه يرميه وراء ظهره ، ولا يعنى به ، أو يقبل عليه بوجهه ، مثل قول العرب : ( اجعل هذا خلف ظهرك ، ودبرا منك وتحت قدمك ) .

                                                          فهذه أمثال للاستخفاف ، وقوله تعالى : وراء ظهورهم معناه أنهم لم يقرءوه ; لأن ما وراء الظهر لا يقرأ ، وإنما يقرأ ما يكون أمامك ، وتقبل عليه .

                                                          وقد صور الله سبحانه وتعالى حالهم فقال : كأنهم لا يعلمون كأنهم لا يعلمون أمر النبوة ورسائل الله تعالى إلى رسله وهم أهل الكتاب ، أو المعنى كأنهم لا يدركون ولا يفرقون بين علم نازل من قبل الله تعالى وأهوائهم ، والله عزيز حكيم .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية