الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل .

ومنها قوله تعالى : { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين } فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال : مثل للكفار ، ومثلين للمؤمنين ، فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو صلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال .

فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله ، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين لوط ونوح وامرأتيهما ، فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا { قيل ادخلا النار مع الداخلين } قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال ، فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية ، ولم يغن نوح عن ابنه ، ولا إبراهيم عن أبيه ، ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا ، قال الله تعالى : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم } وقال تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } .

وقال تعالى : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } وقال : { واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق } وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة ، أو يجيرهم من عذاب الله ، أو [ ص: 145 ] هو يشفع لهم عند الله ، وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم ، وهو الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ، ومحاربة أهله ومعاداتهم .

فصل .

وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما امرأة فرعون ، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله ، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة ، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة ، فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين .

المثل الثاني للمؤمنين مريم التي لا زوج لها ، لا مؤمن ولا كافر ، فذكر ثلاثة أصناف من النساء : المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر ، والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد : فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها ، والثانية لا تضرها وصلتها وسببها ، والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا .

ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة ; فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، والتحذير من تظاهرهن عليه ، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة .

قال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة .

وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها ، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه ، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين ; فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه .

وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك ، وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها ، كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم ; فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف ، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد ، والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه ، وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون . [ ص: 146 ]

قالوا : فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس والجمع والفرق ، واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا

التالي السابق


الخدمات العلمية