الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ، لما بين تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول بغير عذر الظلم ، بين تعالى حكم إبداء الخير وإخفائه سواء كان قولا أو عملا ، وحكم العفو عن السوء وعدم مؤاخذة فاعله به ، وهو أن فاعلي الخيرات ، جهرا أو سرا ، والعافين عن الناس الذين يسيئون إليهم يجزيهم ، سبحانه وتعالى ، من جنس عملهم ، فيعفو عن سيئاتهم ، ويجزل مثوبتهم ، وكان شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل ، وإذا عفا فإنما يعفو عن قدرة كاملة على العقاب ، فصيغة المبالغة من القدرة ( وهي كلمة قدير ) هي التي تدل على إجزال المثوبة وعلى الترغيب في العفو [ ص: 7 ] مع القدرة على المؤاخذة ، وإلا كان وضعها في هذا الموضع غير متفق مع بلاغة القرآن . وإذا قال ملك أو أمير لبعض عبيده أو رجال دولته : إن تعمل كذا من الأعمال المرضية فإن عندي مالا كثيرا ، أو بيدي أعلى الأوسمة والرتب ، فإن أحدا لا يفهم من هذا القول أنه يريد أن يجزيه على ذلك بدريهمات يرضخ بها له ، أو رتبة واطئة يوجهها إليه ، أو وسام من الدرجة الدنيا يحليه به ، بل يفهم من هذا كل من يعرف اللغة أن هذا الجزاء يكون عظيما . وإنما ذهبنا إلى أن كلمة " قديرا " قد أفادت بوضعها هنا الدلالة على عظم الجزاء على العمل الذي رغبت فيه الآية ، وعلى استحباب العفو مع القدرة ، ولم نقصرها على الأمر الثاني وحده كما فعل بعضهم ; لأن الأصل في الوعد بالجزاء أن يكون في كل آية أو سياق على جميع ما ذكر فيها من الأعمال ، وفي هذه الآية ذكر إبداء الخير وإخفائه والعفو عن المسيء فلا يصح أن يكون الوعد خاصا بالأخير منها .

                          الأصل في الشر ألا يفعل - قولا كان أم عملا - إلا لضرورة كالجهر بالسوء ممن ظلم للاستعانة على إزالة الظلم ، والأصل في الخير أن يفعل ، قولا كان أم عملا . وأما المفاضلة بين إبداء الخير وإخفائه فهي تختلف باختلاف العاملين والباعث على العمل وأثر الإبداء والإخفاء له ، فمن كان كامل الإيمان عالي الأخلاق لا يخاف على نفسه الرياء لا فرق عنده في إبداء الخير وإخفائه من جهة نفسه ، فهو يرجح أحد الأمرين على الآخر بنية صالحة ، أو منفعة بينة ، ومن ليس كذلك ينبغي أن يرجح الإخفاء حتى لا يكون له هوى فيه . ومن بواعث الإبداء قصد القدوة ، ومن بواعث الإخفاء قصد الستر وحفظ كرامة من يوجه إليه الخير كالصدقة على الفقراء المتعففين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية