الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2215 ] ومن هذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل، وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ؛ ليهتدوا به فلم يهتدوا; بل ضلوا فهلكوا.. ينتقل السياق إلى القرآن. القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم:

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ..

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان; ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.

                                                                                                                                                                                                                                      يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.

                                                                                                                                                                                                                                      ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.

                                                                                                                                                                                                                                      ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا، وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا. ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى; ولا تميل مع المودة والشنآن; ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.

                                                                                                                                                                                                                                      ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .. ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء. فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه. فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان. الأول مبتور لم يبلغ تمامه، والثاني مقطوع ركيزة له. وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم.. وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن، فهم متروكون لهوى الإنسان. الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له:

                                                                                                                                                                                                                                      ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها. ولقد يفعل الفعل وهو شر، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري.

                                                                                                                                                                                                                                      أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه.. فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟ [ ص: 2216 ] ألا إنهما طريقان مختلفان: شتان شتان. هدى القرآن وهوى الإنسان!

                                                                                                                                                                                                                                      و من الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات; والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين; والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه الله لهم في الكتاب، وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العباد، ومن قواعد العمل والجزاء; والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم..

                                                                                                                                                                                                                                      من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها للرسل ينتقل السياق إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود، يربط بها نشاط البشر وأعمالهم، وجهدهم وجزاءهم، وكسبهم وحسابهم، فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب مرتبطة أشد ارتباط بالنواميس الكونية الكبرى، محكومة بالنواميس ذاتها، قائمة على قواعد وسنن لا تتخلف، دقيقة منظمة دقة النظام الكوني الذي يصرف الليل والنهار، مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار:

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، لتبتغوا فضلا من ربكم، ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح، وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا. من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا. انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار، يرتبط به سعي الناس للكسب. وعلم السنين والحساب. ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر. وترتبط به عواقب الهدى والضلال، وفردية التبعة فلا تزر وازرة وزر أخرى. ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولا. وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها. وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة.. كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لا تتبدل، ونظام لا يتحول. فليس شيء من هذا كله جزافا.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شيء فصلناه تفصيلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة، ولا يدركه التعطل مرة واحدة، ولا يني، يعمل دائبا بالليل والنهار. فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار؟ يبدو - والله أعلم - أن المقصود به ظلمة الليل التي تخفى فيها الأشياء وتسكن فيها الحركات والأشباح.. فكأن الليل ممحو إذا قيس إلى ضوء النهار وحركة الأحياء فيه والأشياء; وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك المحو لليل والبروز للنهار لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب .. فالليل للراحة [ ص: 2217 ] والسكون والجمام، والنهار للسعي والكسب والقيام، و من المخالفة بين الليل والنهار يعلم البشر عدد السنين، ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات.

                                                                                                                                                                                                                                      وكل شيء فصلناه تفصيلا فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكا للمصادفة والجزاف. ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل، وهي عليه شاهد ودليل.

                                                                                                                                                                                                                                      بهذا الناموس الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .

                                                                                                                                                                                                                                      وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله، أي ما يقسم له من العمل، وهو كناية عما يعمله. وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته، على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية. فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه. وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشورا يوم القيامة. فهو يصور عمله مكشوفا، لا يملك إخفاءه، أو تجاهله أو المغالطة فيه. ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور، فإذا هو أعمق أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس; وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع طائر من اليوم العصيب، الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار، ولا يحتاج إلى شاهد أو حسيب: اقرأ كتابك. كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .

                                                                                                                                                                                                                                      وبذلك الناموس الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء:

                                                                                                                                                                                                                                      من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه; إن اهتدى فلها، وإن ضل فعليها. وما من نفس تحمل وزر أخرى، وما من أحد يخفف حمل أحد. إنما يسأل كل عن عمله، ويجزى كل بعمله ولا يسأل حميم حميما..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود، وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم، إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب.

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك تمضي سنة الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدنيا، مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا .

                                                                                                                                                                                                                                      والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغو في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها. ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها.

                                                                                                                                                                                                                                      والآية تقرر سنة الله هذه. فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، [ ص: 2218 ] فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، فعم فيها الفسق، فتحللت وترهلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك. وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين. فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك.

                                                                                                                                                                                                                                      إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسننا لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته. والله لا يأمر بالفسق، لأن الله لا يأمر بالفحشاء. لكن وجود المترفين في ذاته، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا. وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشئ السبب، ولكنها ترتب النتيجة على السبب. الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به. والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق.

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها. وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا.

                                                                                                                                                                                                                                      هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح، قرنا بعد قرن، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير. والله هو الخبير بذنوب عباده البصير:

                                                                                                                                                                                                                                      وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح، وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية