الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في بيان أحوال الزائرين لقبور الأنبياء والصالحين

وأما من يأتي إلى قبر نبي، أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي، أو رجل صالح، وليس كذلك، ويسأله ويستنجده، فهذا على ثلاث درجات:

إحداها: أن يسأله حاجته، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله -عز وجل- فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلا قتل.

وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني; ليشفع لي في هذه الأمور; لأني أتوسل إلى الله به، كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء، يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى .

[ ص: 12 ] وقال سبحانه وتعالى: أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون [الزمر: 23- 44].

وقال تعالى: ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون .

وقال تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه فبين الفرق بينه وبين خلقه.

فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه، فيسأله ذلك الشفيع، فيقضي حاجته، إما رغبة، وإما رهبة، وإما حياء، وإما مودة، وإما غير ذلك.

والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما شاء الله، وشفاعة الشافع من إذنه، فالأمر كله له؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة; فإن الله لا مكره له".

فبين أن الرب سبحانه يفعل ما يشاء، لا يكرهه أحد على اختياره، كما قد يكره الشافع المشفوع إليه، وكما يكره السائل المسئول إذا ألح عليه وآذاه بالمسألة.

فالرغبة تجب أن تكون إليه كما قال تعالى: فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب .

والرهبة تكون من الله، كما قال تعالى: وإياي فارهبون [البقرة: 40].

وقال تعالى: فلا تخشوا الناس واخشون [المائدة: 44] وقد أمرنا أن نصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا.

وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله مني، وأنا بعيد من الله، لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك من أقوال المشركين، فإن الله [ ص: 13 ] تعالى يقول: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [البقرة: 189].

وقد روي: أن الصحابة قالوا: "يا رسول الله! ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية".

وفي الصحيح: أنهم كانوا في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، بل تدعون سميعا قريبا أقرب إليكم -أو إلى أحدكم- من عنق راحلته".

وقد أمر الله تعالى العباد كلهم بالصلاة له، ومناجاته، وأمر كلا منهم أن يقولوا: إياك نعبد وإياك نستعين ، وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى .

ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك، وأقدر على عطاء سؤالك، أو أرحم بك، فهذا جهل وضلال وكفر.

وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم، فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ ألا تسمع إلى ما خرجه البخاري وغيره عن جابر -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به" قال: "ويسمي حاجته".

[ ص: 14 ] فأمر العبد أن يقول: أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم.

وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك، وأعلى درجة عند الله منك، فهذا حق، لكن كلمة حق أريد بها باطل، فإنه إذا كان أقرب منك، وأعلى درجة منك، فإنما معناه أن يثيبه ويعطيه أكثر مما يعطيك، ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله لا يقضي حاجتك أعظم مما يقضيها له إذا دعوت أنت الله تعالى، فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء مثلا; لما فيه من العدوان، فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله، ولا يسعى فيما يبغضه الله، وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول.

وإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته، فهذا هو القسم الثاني: وهو ألا تطلب منه الفعل، ولا تدعوه، ولكن تطلب أن يدعو لك كما تقول للحي: ادع لي، وكما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يطلبون من النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعاء، فهذا مشروع في الحي كما تقدم.

عدم مشروعية سؤال الأموات والتوسل بهم، والدعاء عند قبورهم

وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم، فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ولا نحو ذلك.

ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث.

بل الذي ثبت في الصحيح: أنهم لما أجدبوا زمن عمر -رضي الله عنه- استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا، نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، فيسقون.

ولم يجيئوا إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلين: يا رسول الله ادع الله لنا، واستسق لنا، [ ص: 15 ] ونحن نشتكي إليك ما أصابنا، ونحو ذلك، لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان.

بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- يسلمون عليه، فإذا أرادوا الدعاء، لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف، بل ينحرفون، ويستقبلون القبلة، ويدعون الله وحده لا شريك له، كما يدعونه في سائر البقاع.

وذلك أن في "الموطأ" وغيره عنه صلى الله عليه وسلم، قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وفي السنن عنه أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم; فإن صلاتكم تبلغني".

وفي الصحيح عنه: أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد; يحذر ما فعلوا" قالت عائشة -رضي الله عنها وعن أبويها-: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.

وفي صحيح مسلم عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد; فإني أنهاكم عن ذلك".

وفي "سنن أبي داود" عنه، قال: "لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج".

ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز بناء المساجد على القبور، وقالوا: إنه لا يجوز أن ينذر لقبر، ولا المجاورين عند القبر شيئا من الأشياء، لا من درهم، ولا من زيت، ولا من شمع، ولا من حيوان، ولا غير ذلك، كله نذر معصية.

وقد ثبت في الصحيح، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".

واختلف العلماء هل على الناذر كفارة يمين؟ على قولين.

[ ص: 16 ] ولهذا لم يقل أحد من أئمة السلف: إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة، أو فيها فضيلة، ولا إن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء.

بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور، قبور الأنبياء والصالحين، سواء سميت مشاهد، أو لم تسم.

وقد شرع الله ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء، فقال تعالى: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها [البقرة: 114] ولم يقل: المشاهد.

وقال تعالى: وأنتم عاكفون في المساجد [البقرة: 187] ولم يقل: في المشاهد. وقال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد [الأعراف: 29] وقال: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين [التوبة: 18].

وقال تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا .

وقال صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا".

وقال: "من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة".

التالي السابق


الخدمات العلمية