الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا

                                                          كان المؤمنون يعجبون من حال الكفار كيف يتبعون آباءهم على غير بينة وكيف يستمرون في غيهم، ومنهم ذوو قربى، فكانوا يرشدونهم، ويجزعون لإصرارهم، فبين الله تعالى في هذا النص الكريم أنهم بعد البيان ليس عليهم إثمهم، بل عليهم أن يلزموا بعد التوجيه أنفسهم، ومعنى قوله تعالى: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم احفظوا أنفسكم وصونوها عن الاتباع من غير تفكير، فلا تقلدوا آباءكم من غير بينة، واهتدوا بهدي الله، ولا يضركم ضلال من ضل واستمر على غيه بعد أن أرشد إلى وجه الحق، ولكن لم يدخل قلبه بل استمر على ضلاله القديم، فهذا النص الكريم يفيد أمرين: أولهما: أن يحفظوا أنفسهم، ويقوها شر التقليد المردي، ويعملوا على أن تبقى الهداية منيرة سبيلهم عامرة قلوبهم بها. وثانيهما: أنه لا يضرهم ضلال الضالين، ما داموا قد تجنبوا طريق الغواية هم، وأرشدوهم إلى الحق.

                                                          ولعل ظاهر الآية يوهم أنه لا يضر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما دام لا يضر المؤمن ضلال من ضل، وقد ظهر ذلك الفهم الخطأ في عهد صديق هذه الأمة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب" والآية ليس فيها دليل ناه عن الأمر [ ص: 2379 ] بالمعروف والنهي عن المنكر، والآيات الآمرة بهما، والأحاديث الواردة فيهما لا تزال قائمة ولا ينسخها وهم يسبق إلى ذوي الأوهام من غير نص يدل عليه، ولقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مقام هذه الآية بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال عليه الصلاة والسلام: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شرا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم" وروي عن بعض التابعين أنه قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله تعالى قال في كتابه: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فأقبلوا علي بلسان واحد، وإني لأصغرهم سنا، وقالوا: أتنزع آية من القرآن لا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها؟! فتمنيت أني لم أكن تكلمت، وأقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم، قالوا: إنك غلام حديث السن، وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شرا مطاعا وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضركم من ضل إذا اهتديت.

                                                          وخلاصة المروي عن آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذين اتبعوهم بإحسان أن الآية لا تمنع القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل القيام به واجب محكم، وإنه لا يتم الاهتداء المنصوص عليه في الآية إلا بالقيام بهذا الواجب الخطير، وإنه، لا يترك إلا بحقه، وذلك إذا كان النداء بالحق يورث الفتن عندما يكون الهوى مطاعا والشر متبعا ولا يستطيع منادي الحق أن يجد مصيخا، وقوله يزيد حدة الخلاف، ولا يكون سماع لذوي الكيس والرشد، ولقد قال عبد الله بن المبارك: إن هذه الآية أوكد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; لأن الخطاب لجماعة [ ص: 2380 ] المؤمنين، ومؤداها: احفظوا أنفسكم معشر جماعة المؤمنين، ولا يهمكم ضلال غيركم من الأمم، ولا يجعلكم تغيرون أموركم إلى فساد، ولا شك أن من حفظ جماعة المؤمنين القيام بذلك الواجب العظيم.

                                                          وفي الحق إن القيام بهذا الواجب هو خاصة الأمة الإسلامية كما قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون

                                                          ولا يصح أن يتخلى عنه، وليس في مصادر الشريعة ولا في مواردها ما يسوغ التخلي، وأن ترك القول في أيام الفتن الطحياء التي يكون القول مؤديا إلى زيادة في الفتن والاتهام، فلا يجدي قول، ولا يهدي فكر إلى الرشاد، فيكون السكوت أولى من الكلام، حتى تهدأ عجاجة الفتنة، وتعود القلوب إلى جنوبها، ويوجد السميع، ولكن في هذه الحال يكون الإنكار القلبي، وإرشاد القابلين للإرشاد، في غير ضجيج ولا عجيج، والله سبحانه وتعالى راد الحق إلى نصابه، والقضب إلى أجفانها، وهو بكل شيء عليم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية