الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
( فائدة ) . من الأسئلة الحسنة في قوله تعالى : ( كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ) ( البقرة : 20 ) أنه يقال : لم أتي قبل " أضاء " بـ " كلما " وقبل " أظلم " بـ " إذا " ؟ وما وجه المناسبة في ذلك ؟ وفيه وجوه : الأول : أن تكرار الإضاءة يستلزم تكرار الإظلام ، فكان تنويع الكلام أعذب .

( الثاني ) : أن مراتب الإضاءة مختلفة متنوعة ، فذكر " كلما " تنبيها على ظهور التعدد ، وقوته لوجوده بالصورة والنوعية ، والإظلام نوع واحد ، فلم يؤت بصيغة التكرار لضعف التعدد فيه بعد ظهوره بالنوعية ، وإن حصل بالصورة .

( الثالث ) : قاله الزمخشري ، وفيه تكلف - أنهم لما اشتد حرصهم على الضوء المستفاد من النور كانوا كلما حدث لهم نور تجدد لهم باعث الضوء فيه ، لا يمنعهم من ذلك تقدم فقده ، واختفاؤه منهم ، وأما التوقف بالظلام فهو نوع واحد . وهذا قريب من [ ص: 183 ] الجواب الثاني لكنه بمادة أخرى ، ويفترقان بأن جواب الزمخشري يرجع التكرار فيه إلى جواب " كلما " لا إلى مشروطها الذي يليها ويباشرها ، فطلب تكراره وهو الأولى في مدلول التكرار ، والجواب المتقدم يرجع إلى تكرار مشروطها الذي يتبعه الجواب من حيث هو ملزومه ، وتكرره فرع تكرر الأول .

( الرابع ) : أن إضاءة البرق منسوبة إليه وإظلامه ليس منسوبا إليه ، لأن إضاءته هي لمعانه ، والظلام أمر يحدث عن اختفائه ، فتظلم الأماكن كظلام الأجرام الكثائف ، فأتى بأداة التكرار عند الفعل المتكرر من البرق ، وبالأداة التي لا تقتضي التكرار عند الفعل الذي ليس متكررا منه ولا صادرا عنه .

( الخامس ) : ذكره ابن المنير - أن المراد بإضاءة البرق الحياة ، وبالظلام الموت ، فالمنافق تمر حالة في حياته بصورة الإيمان ، لأنها دار مبنية على الظاهر ، فإذا صار إلى الموت رفعت له أعماله ، وتحقق مقامه ، فتستقيم " كلما " في الحياة ، و " إذا " في الممات ، وهكذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي ، وأمتني إذا كانت الوفاة خيرا لي فاستعمل مع الحياة لفظ التكرار والدوام ، واستعمل مع لفظ الوفاة لفظ الاختصار والتقييد .

وقيل : إن ذلك لأحد معنيين : إما لأن الحياة مأثورة لازدياد العمل الصالح الذي الهمم [ ص: 184 ] العالية معقودة به فعرض بالاستكثار منه والدوام عليه ، ونبه على أن الموت لا يتمنى ، ولكن إذا نزل في وقته رضي به . وإما لأن الحياة يتكرر زمانها ، وأما الموت مرة واحدة .

وجواب آخر : أن الكلام في الأنوار هو الأصل المستمر ، وأما خفقان البرق في أثناء ذلك فعوارض تتصل بالحدوث والتكرار ، فناسب الإتيان فيها بـ " كلما " وفي تلك بـ " إذا " ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية