الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
338 - عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين ، فقال : ( إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما أحدها فكان لا يستتر من البول - وفي رواية : المسلم لا يستتره من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة - ثم أخذ جريدة رطبة ، فشقها بنصفين ثم غرز في كل قبر واحدة . قالوا : يا رسول الله ! لم صنعت هذا ؟ فقال : لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا ) متفق عليه .

التالي السابق


338 - ( وعن ابن عباس قال : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين ، فقال : ( إنهما ) : أي : صاحبي القبرين ( ليعذبان ) : قال الأبهري : أعاد الضمير إلى غير مذكور لأن سياق الكلام يدل عليه اهـ .

ويمكن أنه نقل بالمعنى مع أن تقدير المضاف غير عزيز في كلامهم ، وقال ابن حجر : اللام للتأكيد ويصح على بعد أن يكون جواب قسم محذوف وخبر إن محذوف اهـ . وهو غريب لأنه لا وجه لحذف خبر إن مع أنه لا مانع من أن تكون الجملة القسمية خبرا لإن ( وما يعذبان في كبير ) : قال ابن الملك قوله : في كبير شاهد على ورود في للتعليل ، قال بعضهم : معناه إنهما لا يعذبان في أمر يشق ويكبر عليهما الاحتراز عنه ، وإلا لكانا معذورين كسلس البول والاستحاضة ، أو فيما يستعظمه الناس ولا يجترأ عليه ، فإنه لم يشق عليهما الاستتار عند البول وترك النميمة ، ولم يرد أن الأمر فيهما هين غير كبير في الدين . قال في النهاية : كيف لا يكون كبيرا وهما يعذبان فيه اهـ .

وتبعه ابن حجر ، وفيه أنه يجوز التعذيب على الصغائر أيضا كما هو مقرر في العقائد خلافا للمعتزلة ، فالأولى يستدل على كونهما كبيرتين بقوله عليه الصلاة والسلام في رواية : ( بلى إنهما كبيران عند الله ) . أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ) : من الاستتار ويؤيده أنه أورد هذا الحديث في شرح السنة في باب الاستتار عند قضاء الحاجة ، وفي نسخة صحيحة لا يستنتر . قال الأشرف في الغريبين والنهاية : يستنتر بنون بين التاءين من الاستنتار وهو الاجتذاب مرة بعد أخرى . قال الليث : النتر جذبه فيه قوة قيل : هذا هو الذي يساعد عليه المعنى لا الاستتار ، وعليه كلام الشيخ محيي الدين الآتي ، وفي الرواية الأخرى لا يستتر وهو غلط ، كذا ذكره الطيبي وفيه : أن الاستنتار والاستبراء سنة عند الجمهور ، والتكشف حرام عند الكل ، والمقام مقام التعذيب لكونه كبيرة على ما حرر ، فكيف هو الذي يساعده المعنى دون الاستتار وأنه غلط مع أنه رواية الأكثر وقد أورده البغوي في باب الاستتار ، وأيضا لا يعرف أصل في الأحاديث للاجتذاب مرة بعد أخرى ، بل جذبه بعنف يضر بالذكر ويورث الوسواس المتعب ، بل المخرج عن حيز العقل والدين ، ثم وهم ابن حجر وذكره بلفظ : لا يستبرئ من الاستبراء وجعله أصلا ، ولم يذكر غيره مع أنه ليس أصل الشيخين ، وإنما هو رواية ابن عساكر ، وفي رواية أي لمسلم كما في نسخة الأصل لا يستتر من البول . قال الأبهري : في أكثر الروايات بمثناتين من فوق ، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة ، وفي رواية ابن عساكر : لا يستبرئ بموحدة ساكنة من الاستبراء ، وفي رواية لمسلم : لا يستنزه بنون ساكنة بعدها زاي ثم هاء . قال الشيخ : فعلى رواية الأكثر معنى الاستتار أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة يعني [ ص: 376 ] لا يتحفظ منه فيوافق رواية لا يستنزه لأنها من التنزه وهو الإبعاد اهـ . وهو جمع حسن ومآله إلى عدم التحفظ عن البول المؤدي إلى بطلان الصلاة غالبا وهو من جملة الكبائر . قال ميرك : وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( عامة عذاب القبر من البول ، استنزهوا من البول ) رواه البزار ، والطبراني في الكبير ، والحاكم ، والدارقطني .

وعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر من البول ) . رواه الدارقطني . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أكثر عذاب القبر من البول ) . رواه أحمد وابن ماجه واللفظ له ، والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين . وعن أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( اتقوا البول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر ) رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به ( وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) : أي : إلى كل واحد من الشخصين اللذين بينهما عداوة أو يلقي بينهما عداوة بأن ينقل لكل واحد منهما ما يقول الآخر من الشتم والأذى . قال النووي : النميمة نقل كلام الغير لقصد الإضرار وهي من أقبح القبائح ( ثم أخذ ) : أي : النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة ( جريدة رطبة ) : أي غصنا من النخل ، وفي الفائق هي السعفة التي جردت عنها الخوص أي - : قشرته ( فشقها بنصفين ) : أي : جعلها مشقوقة حال كونها ملتبسة بنصفين ، والأصح أنها مفعول مطلق والباء زائدة للتأكيد ( ثم غرز في كل قبر واحدة ) : أي : في كل من الشقتين ( قالوا : يا رسول الله ! لم صنعت هذا ؟ ! ) : أي : الغرز ( فقال : لعله ) أي العذاب ( أن يخفف ) : بالضم وفتح الفاء أي : العذاب قبل أن يزال ، وفي نسخة بكسر الفاء فالضميران لله أو للغرز مجازا وإدخال إن في خبر لعل مبني على تشبيهها بعسى ( عنهما ) : بالتثنية على الصحيح ، وفي نسخة عنها . قال المالكي . الرواية يخفف عنها على التوحيد والتأنيث وهو ضمير النفس فيجوز إعادة الضميرين في " لعله " وعنها إلى الميت باعتبار كونه إنسانا ونفسا ، ويجوز أن يكون الأول ضمير الشأن وفي عنها للنفس ، وجاز تفسير الشأن بأن وصلتها ، والرواية بتثنية الضمير في عنهما لا تستدعي هذا التأويل كذا قاله الطيبي ، وأغرب ابن حجر حيث جعل رواية ابن مالك أصلا للصحيح ، مع أنه ليس كذلك في الأصول المصححة ، ثم أغرب أيضا حيث قال : وفي رواية التثنية يتعين كون الضمير للشأن ، ويصح كون الضمير مبهما يفسره ما بعده كما في : ما هي إلا حياتنا الدنيا أصله ما الحياة ثم أبدلت بالضمير اكتفاء بدلالة الخبر عليها اهـ . لأن التعين ممنوع كما تقدم ، بل يحتاج في صحته إلى تكلف أحوج إليه الرواية بالإفراد ، وكذا الإبهام والتفسير مع أن مثل هذا لا يقال إلا في موضع لا يوجد للضمير مرجع فليس الحديث المذكور نظيرا للآية المذكورة ( ما لم ييبسا ) بالتذكير أي : ما دام لم ييبس النصفان أو القضيبان وبالتأنيث أي الشقتان أو الجريدتان .

قال النووي : أما وضعهما على القبر فقيل إنه عليه الصلاة والسلام سأل الشفاعة لهما فأجيب : بالتخفيف إلى أن ييبسا ، وقد ذكر مسلم في آخر الكتاب في حديث جابر أن صاحبي القبرين أجيبت شفاعتي فيهما أي : برفع ذلك عنهما ما دام القضيبان رطبين ، وقيل : إنه كان يدعو لهما في تلك المدة وقيل لأنهما يسبحان ما داما رطبين قال كثير من المفسرين في قوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده معناه أن من شيء حي ثم قال : وحياة كل شيء بحسبه ، فحياة الخشب ما لم ييبس ، والحجر ما لم يقطع والمحققون على العموم ، وأن التسبيح على حقيقته لأن المراد الدلالة على الصانع واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث إذ تلاوة القرآن أولى بالتخفيف من تسبيح الجريد ، وقد ذكر البخاري أن بريدة بن الحصيب الصحابي أوصى أن يجعل في قبره جريدتان ، فكأنه تبرك بفعل مثل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقد أنكر الخطابي ما يفعله الناس على القبور من الأخواص ونحوها بهذا الحديث وقال : لا أصل له . وفي الحديث إثبات عذاب القبر كما هو مذهب أهل الحق ، وفيه نجاسة الأبوال ، وفيه تحريم النميمة ، لا سيما مع قوله كان فإنه يدل على الاستمرار ، وفيه أن عدم التنزه من البول يبطل الصلاة وتركها كبيرة بلا شك اهـ .

قيل : وفيه تخفيف عذاب القبر بزيارة الصالحين ووصول بركتهم ، وأما إنكار الخطابي وقوله : " لا أصل له " ففيه بحث واضح ، إذ هذا الحديث يصلح أن يكون أصلا له ، ثم رأيت ابن حجر صرح به وقال قوله : " لا أصل له " ممنوع ، بل هذا الحديث أصل أصيل له ، ومن ثم أفتى بعض الأئمة من متأخري أصحابنا بأن ما اعتيد من وضع الريحان والجريد سنة لهذا الحديث اهـ . ولعل وجه كلام الخطابي أن هذا الحديث واقعة حال خاص لا يفيد العموم ، ولهذا وجه له التوجيهات السابقة فتدبر فإنه محل نظر . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية