الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم :

إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب في قلوبنا عن ذكره ، والحذر منه ، والترصد له ؛ فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا .

وقال قوم : إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله ، واشتغال الهم كله بالشيطان ، وذلك مراد الشيطان منا ، بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ، ولا ننسى الشيطان وعداوته والحاجة إلى الحذر منه فنجمع ، بين الأمرين ؛ فإنا إن نسينا ربما عرض من حيث لا نحتسب وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله ، فالجمع أولى .

وقال العلماء المحققون غلط الفريقان : أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر الله فلا ، يخفى غلطه وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان ؛ كيلا يصدنا عن الذكر ، فكيف نجعل ذكره أغلب الأشياء على قلوبنا ، وهو منتهى ضرر العدو ؟! ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن نور ذكر الله تعالى فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى ، وقوة الاشتغال به ، فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه ، فلم يأمرنا بانتظار الشيطان ، ولا بإدمان ذكره . وأما الفرقة الثانية : فقد شاركت الأولى ؛ إذ جمعت في القلب بين ذكر الله والشيطان وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله وقد أمر الله الخلق بذكره ونسيان ما عداه إبليس وغيره فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من الشيطان ، ويقرر على نفسه عداوته فإذا اعتقد ذلك ، وصدق به ، وسكن الحذر فيه ، فيشتغل بذكر الله ويكب عليه بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان ؛ فإنه إذا اشتغل بذلك بعد معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له .

وعند التنبه يشتغل بدفعه والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان بل الرجل ينام وهو خائف من أن يفوته مهم عند طلوع الصبح فيلزم نفسه الحذر وينام على أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه في الليل مرات قبل أوانه ؛ لما أسكن في قلبه من الحذر ، مع أنه بالنوم غافل عنه ، فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع تنبهه ومثل هذا القلب هو الذي يقوى على دفع العدو إذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله تعالى قد أمات منه الهوى ، وأحيا فيه نور العقل والعلم ، وأماط عنه ظلمة الشهوات فأهل البصيرة أشعروا قلوبهم عداوة الشيطان وترصده وألزموها الحذر ، ثم لم يشتغلوا بذكره ، بل بذكر الله ، ودفعوا بالذكر شر العدو ، واستضاءوا بنور الذكر حتى صرفوا خواطر العدو .

فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر ليتفجر منها الماء الصافي ، فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر ، والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر الله قد نزح الماء القذر من جانب ولكنه تركه جاريا إليها من جانب آخر ، فيطول تعبه ، ولا تجف البئر من الماء القذر ، والبصير هو الذي جعل لمجرى الماء القذر سدا وملأها بالماء الصافي فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسكر والسد من غير كلفة ومؤنة وزيادة تعب .

التالي السابق


(ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر) أي: الاحتراز (فقال قوم: إذا حذرنا الله العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب على قلوبنا من ذكره، والحذر منه، والترصد؛ فإنا إذا غفلنا عنه لحظة) واحدة (يوشك أن يهلكنا) بكيده ومكره .

(وقال قوم: إن ذلك) أي: كونه أغلب شيء على القلب (يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله، واشتغال الهم كله بالشيطان، وذلك مراد الشيطان منا، بل نشتغل بالعبادة وذكر الله، ولا ننسى الشيطان وعداوته والحاجة) الداعية (إلى الحذر منه، فيجمع بين الأمرين؛ فإنا إن نسيناه ربما عرض من حيث لا نحتسب) فيهلكنا (وإن تجردنا لذكره) والترصد له (كنا قد أهملنا ذكر الله، فالجمع أولى .

وقال العلماء المحققون) من الصوفية (غلط الفرقتان: أما الأولى فقد تجردت لذكر الشيطان ونسيت ذكر الله، ولا يخفى غلطها) على من تأمل كلامها (وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان؛ كيلا يصدنا عن الذكر، فكيف نجعل ذكره أغلب الأشياء على قلوبنا، وهو منتهى ضرر العدو؟! ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن نور ذكر الله) فإن [ ص: 301 ] القلب إنما إضاءته بسبب ما يرد عليه من أنوار الذكر .

(فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله، وقوة الاشتغال به، فيوشك أن يظفر به) ويستولي عليه (ولا يقوى على دفعه، فلم يؤمر) العبد، وفي نسخة: فلم يأمرنا (بانتظار الشيطان، ولا بإدمان ذكره .

وأما الفرقة الثانية: فقد شاركت الأولى؛ إذ جمعت في القلب بين ذكر الله والشيطان) وهما نقيضان (وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله) ويشتغل عنه (وقد أمر الله تبارك وتعالى الخلق بذكره ونسيان ما عداه) أي: ما سواه (إبليس وغيره) بل سائر ما في الكون الاشتغال به شغل عن الله عز وجل .

(فالحق) الذي أحق أن يتبع وهو الوجه الثالث: (أن يلزم العبد قلبه الحذر من الشيطان، ويقرر على نفسه عداوته) على طريق التأكد (فإذا اعتقده، وصدق به، وسكن الحذر فيه، فيشتغل بذكر الله) حينئذ (ويكب عليه بكل الهمة) أي: يقبل عليه مع الملازمة (ولا يخطر بباله أمر الشيطان؛ فإنه إن اشتغل بذلك بعد معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له) في الحال (وعند التنبه يشتغل بدفعه) على قدر الإمكان (والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان) والتنبه له (بل الرجل ينام وهو خائف على أن يفوته مهم) أي: أمر مقصود لذاته (عند طلوع الصبح فيلزم نفسه الحذر) أي: التحرز (وينام على أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه من الليل) أي: في أثنائه (مرات قبل أوانه؛ لما سكن في قلبه من الحذر، مع أنه بالنوم غافل عنه، فاشتغاله بذكر الله كيف يمنعه تنبهه) لا يحذر منه؟!

(ومثل هذا القلب الذي يقوى على دفع العدو) إذا هجم عليه (وإذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله فقد أمات منه الهوى، وأحيا منه نور الفضل والعلم، وأماط) أي: أزال (عنه ظلمة الشهوات فأهل البصيرة) التامة (أشعروا قلوبهم عداوة الشيطان وترصده) وانتظاره (وألزموها الحذر، ثم لم يشتغلوا بذكره، بل بذكر الله، ودفعوا بالذكر شر العدو، واستضاءوا بنور ذكر الله حتى أبصروا خواطر العدو) من أين تهجم، فاستعدوا لدفعها بقوة نور الذكر .

(فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر) المنتن (ليتفجر منها الماء الصافي، فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر، والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر الله تعالى قد نزح الماء القذر من جانب ولكنه قد تركه جاريا إليها من جانب آخر، فيطول تعبه، ولا يخف من البئر الماء القذر، والبصير) العارف (هو الذي يجعل لمجرى الماء القذر سدا) فسده عليه (وملأه بالصافي) الذي لا كدر فيه (فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسكر والسد) يقال: سكرت النهر سكرا إذا سددته، والسكر بالكسر ما يسد به النهر (من غير كلفة) أي: مشقة (ومؤنة وزيادة تعب) والله الموفق .




الخدمات العلمية