الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 153 ] مسألة :

                                                                                                                                                                                          والخلطة في الماشية أو غيرها لا تحيل حكم الزكاة ، ولكل أحد حكمه في ماله ، خالط أو لم يخالط لا فرق بين شيء من ذلك ؟ حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا عبيد الله بن فضالة أنا سريج بن النعمان ثني حماد بن سلمة عن ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك عن أنس بن مالك : أن أبا بكر الصديق كتب له " أن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمر الله بها رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث ، وفي آخره { ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فاختلف الناس في تأويل هذا الخبر ؟ فقالت طائفة : إذا تخالط اثنان فأكثر في إبل ، أو في بقر ، أو في غنم ، فإنهم تؤخذ من ماشيتهم ، الزكاة كما كانت تؤخذ لو كانت لواحد ، والخلطة عندهم أن تجتمع الماشية في : الراعي ، والمراح ، والمسرح ، والمسقى ، ومواضع الحلب : عاما كاملا متصلا وإلا فليست خلطة ، وسواء كانت ماشيتهم مشاعة لا تتميز ، أو متميزة ، وزاد بعضهم : الدلو ، والفحل قال أبو محمد : وهذا القول مملوء من الخطأ ؟ أول ذلك : أن ذكرهم الراعي كان يغني عن ذكر المسرح ، والمسقى ; لأنه لا يمكن ألبتة أن يكون الراعي واحدا وتختلف مسارحها ومساقيها ; فصار ذكر المسرح والمسقى فضولا وأيضا - فإن ذكر الفحل خطأ ، لأنه قد يكون لإنسان واحد فحلان وأكثر ; لكثرة ماشيته ، وراعيان وأكثر لكثرة ماشيته ; فينبغي على قولهم - إذا أوجب اختلاطهما في الراعي ، والعمل - : أن يزكيها ، زكاة المنفرد ، وأن لا تجمع ماشية إنسان واحد إذا كان [ ص: 154 ] له فيها راعيان فحلان ، وهذا لا تخلص منه ؟ ونسألهم إذا اختلطا في بعض هذه الوجوه : ألهما حكم الخلطة أم لا ؟ فأي ذلك قالوا فلا سبيل أن يكون قولهم إلا تحكما فاسدا بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل بلا شك - وبالله تعالى التوفيق . ثم زادوا في التحكم فرأوا في جماعة لهم خمسة من الإبل ، أو أربعون من الغنم ، أو ثلاثون من البقر - بينهم كلهم - : أن الزكاة مأخوذة منها ، وأن ثلاثة لو ملك كل واحد منهم أربعين شاة - وهم خلطاء فيها - : فليس عليهم إلا شاة واحدة فقط ، كما لو كانت لواحد ، وقالوا : إن خمسة لكل واحد منهم خمسة من الإبل - تخالطوا بها عاما - فليس فيها إلا بنت مخاض وهكذا في جميع صدقات المواشي . وهذا قول الليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي ، وأبي بكر بن داود فيمن وافقه من أصحابنا . حتى أن الشافعي رأى حكم الخلطة جاريا كذلك في الثمار ، والزرع ، والدراهم ، والدنانير - فرأى في جماعة بينهم خمسة أوسق فقط أن الزكاة فيها ، وأن جماعة يملكون مائتي درهم فقط أو عشرين دينارا فقط - وهم خلطاء فيها - أن الزكاة واجبة في ذلك ، ولو أنهم ألف أو أكثر أو أقل ؟ وقالت طائفة : إن كان يقع لكل واحد من الخلطاء ما فيه الزكاة زكوا حينئذ زكاة المنفرد ، وإن كان لا يقع لكل واحد منهم ما فيه الزكاة فلا زكاة عليهم ، ومن كان منهم يقع له ما فيه الزكاة فعليه الزكاة ، ومن كان غيره منهم لا يقع له ما فيه الزكاة فلا زكاة عليه .

                                                                                                                                                                                          فرأي هؤلاء في اثنين - فصاعدا - يملكان أربعين شاة ، أو ستين أو ما دون الثمانين ، أو ثلاثين من البقر أو ما دون الستين ، وكذلك في الإبل - : فلا زكاة عليهم ; فإن كان ثلاثة يملكون مائة وعشرين شاة ، لكل واحد منهم ثلثها ، فليس عليهم إلا شاة واحدة فقط ، وهكذا في سائر المواشي [ ص: 155 ] ولم ير هؤلاء حكم الخلطة إلا في المواشي فقط وهو قول الأوزاعي ، ومالك ، وأبي ثور ، وأبي عبيد ، وأبي الحسن بن المغلس من أصحابنا ؟ وقالت طائفة : لا تحيل الخلطة حكم الزكاة أصلا ، لا في الماشية ، ولا في غيرها ; وكل خليط ليزكي ما معه كما لو لم يكن خليطا ، ولا فرق ، فإن كان ثلاثة خلطاء لكل واحد أربعون شاة فعليهم ثلاث شياه ، على كل واحد منهم شاة ، وإن كان خمسة لكل واحد منهم خمس من الإبل وهم خلطاء فعلى كل واحد شاة ، وهكذا القول في كل شيء . وهو قول سفيان الثوري ، وأبي حنيفة ، وشريك بن عبد الله ، والحسن بن حي ؟ قال أبو محمد : لم نجد في هذه المسألة قولة لأحد من الصحابة ، ووجدنا أقوالا عن عطاء وطاووس ، وابن هرمز ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، والزهري ، فقط روينا عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس أنه كان يقول : إذا كان الخليطان يعلمان أموالهما فلا تجمع أموالهما في الصدقة .

                                                                                                                                                                                          قال ابن جريج : فذكرت هذا لعطاء من قول طاووس فقال : ما أراه إلا حقا ، وروينا عن معمر عن الزهري قال : إذا كان راعيهما واحدا ، وكانت ترد جميعا - وتروح جميعا - صدقت جميعا ؟ ومن طريق ابن وهب عن الليث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال : إن الإبل إذا جمعها الراعي والفحل والحوض تصدق جميعا ثم يتحاص أصحابها على عدة الإبل في قيمة الفريضة التي أخذت من الإبل ، فإن كان استودعه إياها لا يريد مخالطته ولا وضعها عنده يريد نتاجها - فإن تلك تصدق وحدها ؟ وعن ابن هرمز مثل قول مالك ؟ قال أبو محمد : احتجت كل طائفة لقولها بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صدرنا به - : فقال من رأى أن الخلطة تحيل الصدقة وتجعل مال الاثنين فصاعدا بمنزلة [ ص: 156 ] كما ] لو أنه لواحد - : أن معنى قوله عليه السلام { لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة } أن معنى ذلك هو أن يكون لثلاثة مائة وعشرون شاة ، لكل واحد منهما ثلثها : وهم خلطاء ; فلا يجب عليهم كلهم إلا شاة واحدة ، فنهى المصدق أن يفرقها ليأخذ من كل واحد شاة فيأخذ ثلاث شياه ، والرجلان يكون لهما مائتا شاة وشاتان ، لكل واحد نصفها ، فيجب عليهما ثلاث شياه فيفرقانها خشية الصدقة ; فيلزم كل واحد منهما شاة ، فلا يأخذ المصدق إلا شاتين ؟ وقالوا : معنى قوله عليه السلام { كل خليطين يتراجعان بينهما بالسوية } هو أن يعرفا أخذ الساعي فيقع على كل واحد حصته على حسب عدد ماشيته كاثنين لأحدهما أربعون شاة وللآخر ثمانون وهما خليطان ، فعليهما شاة واحدة ، على صاحب الثمانين ثلثاها وعلى صاحب الأربعين ثلثها وقال من رأى أن الخلطة لا تحيل حكم الصدقة : معنى قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة } هو أن يكون لثلاثة مائة وعشرون شاة ، لكل واحد ثلثها ، فيجب على كل واحد شاة ، فنهوا عن جمعها وهي متفرقة في ملكهم تلبيسا على الساعي أنها لواحد فلا يأخذ إلا واحدة ، والمسلم يكون له مائتا شاة وشاتان فيجب عليه ثلاث شياه ، فيفرقها قسمين ويلبس على الساعي أنها لاثنين ، لئلا يعطي منها إلا شاتين ، وكذلك نهى المصدق أيضا عن أن يجمع على الاثنين - فصاعدا - ما لهم ليكثر ما يأخذ ، وعن أن يفرق مال الواحد في الصدقة ، وإن وجده في مكانين متباعدين ليكثر ما يأخذ وقالوا : ومعنى قوله عليه السلام : { كل خليطين يترادان بينهما بالسوية } هو أن [ ص: 157 ] الخليطين في اللغة التي بها خاطبنا عليه السلام - هما ما اختلط مع غيره فلم يتميز ; ولذلك سمي الخليطان من النبيذ بهذا الاسم ، وأما ما لم يختلط غيره فليسا خليطين ، هذا ما لا شك فيه ، قالوا : فليس الخليطان في المال إلا الشركين فيه اللذين لا يتميز مال أحدهما من الآخر ، فإن تميز فليسا خليطين ، قالوا : فإذا كان خليطان كما ذكرنا وجاء المصدق ففرض عليه أن يأخذ من جملة المال الزكاة الواجبة على كل واحد منهما في ماله ، وليس عليه أن ينتظر قسمتها لمالهما ، ولعلهما لا يريدان القسمة ، وإن كانا حاضرين فليس له أن يجبرهما على القسمة ، فإذا أخذ زكاتيهما فإنهما يترادان بالسوية ; كائنين لأحدهما ثمانون شاة وللآخر أربعون ، وهما شريكان في جميعها ، فيأخذ المصدق شاتين ; وقد كان لأحدهما ثلثا كل شاة منهما وللآخر ثلثها ، فيترادان بالسوية فيبقى لصاحب الأربعين تسع وثلاثون ، ولصاحب الثمانين تسع وسبعون ؟ قال أبو محمد : فاستوت دعوى الطائفتين في ظاهر الخبر ، ولم تكن لإحداهما مزية على الأخرى في الخبر المذكور فنظرنا في ذلك فوجدنا تأويل الطائفة التي رأت أن الخلطة لا تحيل حكم الزكاة أصح ; لأن كثيرا من تفسيرهم المذكور متفق من جميع أهل العلم على صحته ، وليس شيء من تفسير الطائفة الأخرى مجمعا عليه ; فبطل تأويلهم لتعريه من البرهان ; وصح تأويل الأخرى لأنه لا شك في صحة ما اتفق عليه ، ولا يجوز أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قول لا يدل على صحته نص ولا إجماع ; فهذه حجة صحيحة ؟ ووجدنا أيضا الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : { وليس فيما دون خمس ذود صدقة } وأن من لم يكن له إلا أربع من الإبل فلا صدقة عليه { وليس فيما دون أربعين شاة شيء } وسائر ما نصه عليه السلام في صدقة الغنم ، والإبل ، من أن في أربعين شاة شاة ، وفي خمس وعشرين [ من الإبل ] بنت مخاض ، وغير ذلك ، ووجدنا من لم يحل بالخلطة حكم الزكاة قد أخذ بجميع هذه النصوص ولم يخالف شيئا منها ، ووجدنا [ ص: 158 ] من أحال بالخلطة حكم الزكاة يرى هذه النصوص ولم يخالف شيئا منها ووجدنا من أحال بالخلطة حكم الزكاة يرى في خمسة لكل واحد منهم خمس من الإبل أن على كل واحد منهم خمس بنت مخاض ، وأن ثلاثة لهم مائة وعشرون شاة على السواء بينهم أن على كل امرئ منهم ثلث شاة ، وأن عشرة رجال لهم خمس من الإبل بينهم ، فإن بعضهم يوجب على كل واحد منهم عشر شاة وهذه زكاة ما أوجبها الله تعالى قط ; وخلاف لحكمه تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وسألناهم عن إنسان له خمس من الإبل ، خالط بها صاحب خمس من الإبل في بلد ، وله أربع من الإبل خالط بها صاحب أربع وعشرين في بلد آخر ، وله ثلاث من الإبل ، خالط بها صاحب خمس وثلاثين في بلد ثالث ؟ فما علمناهم أتوا في ذلك بحكم يعقل أو يفهم وسؤالنا إياهم في هذا الباب يتسع جدا ; فلا سبيل لهم إلى جواب يفهمه أحد ألبتة ، فنبهنا بهذا السؤال على ما زاد عليه . وقال تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } .

                                                                                                                                                                                          ومن رأى حكم الخلطة يحيل الزكاة فقد جعل زيدا كاسبا على عمرو ، وجعل لمال أحدهما حكما في مال الآخر ; وهذا باطل وخلاف للقرآن والسنن . وما عجز رسول الله صلى الله عليه وسلم قط - وهو المفترض عليه البيان لنا - عن أن يقول : المختلطان في وجه كذا ووجه كذا [ يزكيان ] زكاة المنفرد ، فإذ لم يقله فلا يجوز القول به ؟ وأيضا - فإن قولهم بهذا الحكم إنما هو فيما اختلط في الدلو ، والراعي ، والمراح ، والمحتلب - : تحكم بلا دليل أصلا ، لا من سنة ولا من قرآن ولا قول صاحب ولا من قياس ، ولا من وجه يعقل ، وبعضهم اقتصر على بعض الوجوه بلا دليل وليت [ ص: 159 ] شعري : أمن قوله عليه السلام مقصورا على الخلطة في هذه الوجوه دون أن يريد به الخلطة في المنزل ، أو في الصناعة ، أو في الشركة في الغنم كما قال طاوس وعطاء ؟ وفي هذا كفاية فإن ذكروا ما حدثناه أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد ثنا أبو الأسود هو النضر بن عبد الجبار مصري - ثنا ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد أنه كتب إليه : أنه سمع السائب بن يزيد يقول : إنه سمع سعد بن أبي وقاص يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الخليطان ما اجتمع على الفحل ، والمرعى ، والحوض } . قلنا : هذا لا يصح ; لأنه عن ابن لهيعة .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح فما خالفناكم في أن ما اجتمع على فحل ، ومرعى ، وحوض : أنهما خليطان في ذلك ; وهذا حق لا شك فيه ; ولكن ليس فيه إحالة حكم الزكاة [ ص: 160 ] المفترضة بذلك ولو وجب بالاختلاط في المرعى إحالة حكم الزكاة لوجب ذلك في كل ماشية في الأرض ، لأن المراعي متصلة في أكثر الدنيا ، إلا أن يقطع بينهما بحر ، أو نهر ، أو عمارة وأيضا - فليس في هذا الخبر ذكر لتخالطهما بالراعي ، وهو الذي عول عليه مالك ، والشافعي ; وإلا فقد يختلط في المسقى ، والمرعى ، والفحل : أهل الحلة كلهم ، وهما لا يريان ذلك خلطة تحيل حكم الصدقة ؟ وزاد ابن حنبل : والمحتلب .

                                                                                                                                                                                          وقال بعضهم : إن اختلطا أكثر الحول كان لهما حكم الخلطة

                                                                                                                                                                                          وهذا تحكم بارد ونسألهم عمن خالط آخر ستة أشهر ؟ فبأي شيء أجابوا فقد زادوا في التحكم بلا دليل ولم يكونوا بأحق بالدعوى من غيرهم ؟ وأما قول مالك فظاهر الحوالة جدا ; لأنه خص بالخلطة المواشي ، فقط ، دون الخلطة في الثمار ، والزرع والناض ، وليس هذا التخصيص موجودا في الخبر فإن قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك بعقب ذكره حكم الماشية ؟ قلنا : فكان ماذا ؟ فإن كان هذا حجة لكم فاقتصروا بحكم الخلطة على الغنم فقط لأنه عليه السلام لم يقل ذلك إلا بعقب ذكر زكاة الغنم ; وهذا ما لا مخلص منه ؟ فإن قالوا : قسنا الإبل ، والبقر ، على الغنم ؟ قيل لهم : فهلا قستم الخلطة في الزرع والثمرة على الخلطة في الغنم ؟ وأيضا : فإن مالكا استعمل إحالة الزكاة بالخلطة في النصاب [ فزائدا ] ولم يستعمله في عموم الخلطة كما فعل الشافعي ، وهذا تحكم ودعوى بلا برهان ; وإن كان فر عن إحالة النص في أن لا زكاة فيما دون النصاب - : فقد وقع فيه فيما فوق النصاب ، ولا فرق بين الإحالتين - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 161 ] قال أبو محمد : وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم يشنعون بخلاف الجمهور إذا وافق تقليدهم ; وهم هنا قد خالفوا خمسة من التابعين ، لا يعلم لهم - من طبقتهم ولا ممن قبلهم - مخالف وهذا عندنا غير منكر ; لكن أوردناه لنريهم تناقضهم ، واحتجاجهم بشيء لا يرونه حجة إذا خالف أهواءهم وموهوا أيضا بما حدثناه أحمد بن محمد بن الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا يزيد بن هارون عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه حكيم عن معاوية بن حيدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون ، لا تفرق إبل عن حسابها ، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ، عزمة من عزمات ربنا ; لا يحل لآل محمد منها شيء ، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله }

                                                                                                                                                                                          قالوا : فمن أخذ الغنم من أربعين ناقة لثمانية شركاء ; لكل واحد منهم خمس ، فقد فرقها عن حسابها ، ولم يخص عليه السلام ملك واحد من ملك جماعة ؟ قال أبو محمد : فنقول لهم وبالله تعالى نتأيد : إن كل هذا الخبر عندكم حجة فخذوا بما فيه ، من أن مانع الزكاة تؤخذ منه وشطر إبله زيادة ؟ فإن قلتم : هذا منسوخ ؟ قلنا لكم : هذه دعوى بلا حجة ، لا يعجز عن مثلها خصومكم ، فيقولوا لكم والذي تعلقتم به منه منسوخ وإن كان المشغب به مالكيا ؟ قلنا لهم : فإن كان شريكه مكاتبا أو نصرانيا فإن قالوا : هذا قد خصته أخبار أخر ؟ قلنا : وهذا نص قد خصته أخبار أخر ، وهي أن لا زكاة في أربع من الإبل فأقل ، [ ص: 162 ] وأن في كل خمس شاة إلى أربع وعشرين .

                                                                                                                                                                                          ثم نقول ; هذا خبر لا يصح . لأن بهز بن حكيم غير مشهور العدالة ، ووالده حكيم كذلك . فكيف ولو صح هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة ; لأنه ليس فيه أن حكم المختلطين حكم الواحد ; ولا يجوز أن يجمع مال إنسان إلى مال غيره في الزكاة ، ولا أن يزكى مال زيد بحكم مال عمرو ; لقول الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فلو صح لكان معناه بلا شك فيما جاوز العشرين ومائة من الإبل ; لمخالفة جميع الأخبار أولها عن آخرها ; لما خالف هذا العمل لإجماعهم وإجماع الأخبار على أن في ست وأربعين من الإبل حقة لا بنت لبون ; ولسائر ذلك من الأحكام التي ذكرنا وأيضا : أنه ليس في هذا الخبر إلا الإبل فقط ; نقلهم حكم الخلطة إلى الغنم ، والبقر : قياس ، والقياس كله باطل ; ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأنه ليس نقل هذا الحكم عن الإبل إلى البقر والغنم بأولى من نقله إلى الثمار والحبوب والعين . وكل ذلك دعوى في غاية الفساد - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          ولأبي حنيفة هاهنا تناقض طريف ; وهو أنه قال في شريكين في ثمانين شاة لكل واحد منهما نصفها : إن عليهما شاتين بينهما ; وأصاب في هذا . ثم قال في ثمانين شاة لرجل واحد نصفها ونصفها الثاني لأربعين رجلا : إنه لا زكاة فيها أصلا ، لا على الذي يملك نصفها ، ولا على الآخرين ; واحتج في إسقاطه الزكاة عن صاحب الأربعين بأن تلك التي بين اثنين يمكن قسمتها وهذه لا يمكن قسمتها ؟ فجمع كلامه هذا : أربعة أصناف من فاحش الخطأ ؟ أحدها - إسقاطه الزكاة عن مالك أربعين شاة هاهنا ؟ والثاني - إيجابه الزكاة على مالك أربعين في المسألة الأخرى ; ففرق بلا دليل [ ص: 163 ] والثالث - احتجاجه في إسقاطه الزكاة هنا بأن القسمة تمكن هنالك : ولا تمكن هاهنا ; فكان هذا عجبا ؟ وما ندري للقسمة وإمكانها . أو تعذر إمكانها مدخلا في شيء من أحكام الزكاة ؟ والرابع - أنه قد قال الباطل ; بل إن كانت القسمة هنالك ممكنة فهي هاهنا ممكنة ، وإن كانت هاهنا متعذرة فهي هنالك متعذرة ; فاعجبوا لقوم هذا مقدار فهمهم ؟

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإذا قال قائل : فأنتم توجبون الزكاة على الشريك في الماشية إذا ملك ما فيه الزكاة في حصته ، وتوجبونها على الشريكين في الرقيق في زكاة الفطر ، وتقولون فيمن له نصف عبد مع آخر ونصف عبد آخر مع آخر ، فأعتق النصفين - : إنه لا يجزئانه عن رقبة واجبة ; ومن له نصف شاة مع إنسان ، ونصف شاة أخرى مع آخر فذبحهما - : إنه لا يجزئه ذلك عن هدي واجب فكيف هذا ؟ قلنا : نعم ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ليس على المسلم في فرسه وعبده صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق } فقلنا بعموم هذه اللفظة . وقال عليه السلام : { كل خليطين فإنهما يترادان بينهما بالسوية } فقلنا بذلك ، وأوجب رقبة وهدي شاة ولا يسمى نصفا عبدين : رقبة ; ولا نصفا شاة : شاة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية