الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فهل يجوز للعبد أن يحب حمد الناس له بالصلاح ، وحبهم إياه بسببه ، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : دلني على ما يحبني الله عليه ، ويحبني الناس قال : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وانبذ إليهم هذا الحطام يحبوك .

فنقول : حبك لحب الناس لك قد يكون مباحا ، وقد يكون محمودا ، وقد يكون مذموما .

فالمحمود أن تحب ذلك لتعرف به حب الله لك ؛ فإنه تعالى إذا أحب عبدا حببه في قلوب عباده .

والمذموم أن تحب حبهم وحمدهم على حجك وغزوك وصلاتك على ، طاعة بعينها ؛ فإن ذلك طلب عوض على طاعة الله عاجل ، سوى ثواب الله .

والمباح : أن تحب أن يحبوك لصفات محمودة سوى الطاعات المحمودة المعينة ، فحبك ذلك كحبك المال ؛ لأن ملك القلوب وسيلة إلى الأغراض كملك الأموال ، فلا فرق بينهما .

التالي السابق


(فإن قلت: فهل يجوز للعبد أن يحب حمد الناس له بالصلاح، وحبهم إياه بسببه، وقد قال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: دلني على ما يحبني الله عليه، ويحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا) من الزهد بالضم، وهو لغة: الإعراض عن الشيء؛ احتقارا. وشرعا: الاقتصار على قدر الضرورة مما يتقى حله، والمراد بالزهد في الدنيا باستصغار جملتها، واحتقار جمع شأنها؛ لتحذير الله منها، واحتقاره لها (يحبك الله، وانبذ إليهم هذا الحطام) أي: ارم لهم بما في يدك من أعراض الدنيا (يحبوك) لأن قلوبهم مجبولة مطبوعة على حب الدنيا، ومن نازع إنسانا في محبوبه كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه .

قال العراقي: رواه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد، بلفظ: "وازهد مما في أيدي الناس يحبك الناس".

قلت: سياق المصنف أخرجه أبو نعيم في الحلية، من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن أنس، بلفظ: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وأما الناس فانبذ إليهم هذا فيحبوك" ورجاله ثقات، لكن في سماع مجاهد عن أنس فيه نظر .

وقد رواه الأثبات، فلم يجاوزوا به مجاهدا، وكذا روي من حديث ربعي بن حراش، عن الربيع بن خثيم، رفعه مرسلا .

وأما حديث سهل بن سعد فرواه ابن ماجه في الزهد في سننه، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية، وابن حبان، والحاكم في صحيحه، والبيهقي في الشعب، وآخرون، كلهم من حديث خالد بن عمرو القرشي، عن الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى [ ص: 310 ] الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: ازهد" وذكره .

وقال الحاكم: إنه صحيح الإسناد، وليس كذلك؛ فخالد مجمع على تركه، بل نسب إلى الوضع، لكن قد رواه غيره عن الثوري، وقال المنذري عقيب عزوه لابن ماجه: وقد حسن بعض مشايخنا إسناده، وفيه بعد؛ لأنه من رواية خالد القرشي، وقد ترك واتهم. قال علي: هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة، ولا يمنع كون راويه ضعيفا أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله. اهـ .

وقد سبقه النووي في تحسينه، وتبعه العراقي والجلال السيوطي، وقد اختلف فيه كلام الحافظ ابن حجر، والذي يميل إلى القلب تحسينه. والله أعلم .

(فنقول: حبك لحب الناس لك قد يكون مباحا، وقد يكون محمودا، وقد يكون مذموما، فالمحمود أن تحب ذلك لتعرف به حب الله لك؛ فإنه عز وجل إذا أحب عبدا حببه في قلوب عباده) .

روى أبو نعيم في الحلية، من حديث أنس: " إذا أحب الله عبدا قذف حبه في قلوب الملائكة، وإذا بغض عبدا قذف بغضه في قلوب الملائكة، ثم يقذفه في قلوب الآدميين".

وفي المتفق عليه من حديث أبي هريرة: "إذا أحب الله عز وجل عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادى جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض".

وعند الترمذي وقال: حسن صحيح بزيادة: "ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ".

(والمذموم أن تحب حبهم وحمدهم على حجك وغزوك وصلاتك، وعلى طاعة بعينها؛ فإن ذلك طلب عوض على طاعة الله عاجلا، سوى ثواب الله) فذلك مذموم .

(والمحمود: أن تحب أن يحبوك لصفات محمودة) وأخلاق حسنة (سوى الطاعات المحبوبة المعينة، فحبك ذلك كحبك للمال؛ لأن ملك القلوب وسيلة إلى الأغراض كملك الأموال فإنه كذلك وسيلة إلى الأغراض، فلا فرق بينهما) حينئذ. والله الموفق .




الخدمات العلمية