الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
740 [ ص: 165 ] حديث ثان لموسى بن عقبة .

مالك عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله ، أنه سمع أباه يقول : بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة .

التالي السابق


قال أبو عمر : هكذا روى هذا الحديث جماعة الرواة للموطأ ( عن مالك رحمه الله ) وكذلك رواه ابن عيينة كما رواه مالك سواء بلفظ واحد ، وبإسناده قال فيه : سمعت موسى سمع سالما : سمعت ابن عمر فذكره ، ورواه شعبة عن موسى بن عقبة فخالفهما في معناه ( وسنذكر ذلك في هذا الباب إن شاء الله ) وأما قوله في هذا الحديث : بيداؤكم فإنه أراد موضعكم الذي [ ص: 166 ] تزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يهل إلا منه قال ذلك ابن عمر منكرا لقول من قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أهل في حجته حين أشرف على البيداء ، والبيداء الصحراء يريد بيداء ذي الحليفة ، وأما قوله : ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالإهلال في الشريعة هو الإحرام بالحج ، وهو التلبية بالحج أو العمرة ، وهو قول لبيك اللهم لبيك ، وينوي ما شاء من حج أو عمرة ، وأكثر الفقهاء يقولون : إن الإحرام فرض من فرائض الحج ، وركن من أركانه ، إما بالقول والنية جميعا ، وإما بالنية على حسب اختلافهم في ذلك ، مما سنذكره في باب نافع عند ذكر ( حديث ) التلبية في كتابنا هذا إن شاء الله .

( واتفق مالك بن أنس والشافعي ) على أن النية في الإحرام تجزئ عن الكلام ) وناقض ( في هذه المسألة ) أبو حنيفة فقال : إن الإحرام عنده من شرط التلبية ، ولا يصح إلا بالنية كما لا يصح الدخول في الصلاة إلا بالنية ، والتكبير ثم قال : [ ص: 167 ] فيمن أغمي عليه فأحرم عنه أصحابه ، ولم يفق حتى ( فاته ) الوقوف بعرفة أنه يجزيه إحرام أصحابه عنه ، وبه قال الأوزاعي . وقال مالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد : من عرض له هذا فقد فاته الحج ، ولا ينفعه إحرام أصحابه عنه ، قالوا : وناقض مالك فقال : من أغمي عليه فلم يحرم فلا حج له ، ومن وقف بعرفة مغمى عليه أجزأه ، وقال بعض أصحابنا : ليس بتناقض ; لأن الإحرام لا يفوت إلا بفوت عرفة ، وحسب المغمى عليه أن يحرم إذا أفاق قبل عرفة ، فإذا أحرم ثم أغمي عليه فوقف به مغمى عليه أجزأه من أجل أنه على إحرامه .

قال أبو عمر : الذي يدخل علينا في هذا أن الوقوف بعرفة فرض فيستحيل أن يتأدى من غير قصد إلى أدائه كالإحرام سواء ، وكسائر الفروض لا تسقط إلا بالقصد إلى أدائها بالنية ، والعمل هذا هو الصحيح في هذا الباب ، والله الموفق للصواب .

ووافق أبو حنيفة مالكا فيمن شهد عرفة مغمى عليه ، ولم ينو حتى انصدع الفجر ، وخالفهما الشافعي فلم يجز للمغمى عليه ، وقوفه بعرفة حتى يصح ويفيق عالما بذلك قاصدا إليه ، وبقول الشافعي قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ، وأكثر الناس . وسنذكر التلبية ، وحكمها في باب نافع من كتابنا هذا ، إن شاء [ ص: 168 ] الله ، وأصل الإهلال في اللغة رفع الصوت ، وكل رافع صوته فهو مهل ، ومنه قيل للطفل إذا سقط من بطن أمه فصاح قد استهل صارخا ، والاستهلال والإهلال سواء ، ومنه قول الله عز وجل ( وما أهل به لغير الله ) لأن الذابح منهم كان إذا ذبح لآلهة سماها ، ورفع صوته بذكرها ، وقال النابغة :


أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد

.

يعني بإهلاله رفعه صوته بالحمد والدعاء إذا رآها ، وقال ابن أحمر :


يهل بالغرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر

.

واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لحجته من أقطار ذي الحليفة ، ولا خلاف أن ميقات أهل المدينة ذو الحليفة ، وسنذكر المواقيت وما للعلماء في حكمها ، في باب نافع من كتابنا هذا إن شاء الله .

فقال قوم : أحرم من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه ، وقال آخرون : لم يحرم إلا من بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد ، وقال آخرون : إنما أحرم حين أظل على البيداء فأشرف عليها [ ص: 169 ] وقد أوضح ابن عباس المعنى في اختلافهم رضي الله عنه ، فأما الآثار التي ذكر فيها أنه أهل حين أشرف على البيداء ، فأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا النضر قال : أخبرنا أشعث بن عبد الملك ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالبيداء ثم ركب ، وصعد جبل البيداء ، وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : أخبرنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا أشعث ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر ثم ركب راحلته ، فلما علا على البيداء أهل .

وقرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا أبو قلابة قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم من البيداء ، وربما قال : من المسجد ، حين استوت به راحلته ، ورواية شعبة لهذا الحديث عن موسى بن عقبة مخالفة ، لرواية مالك عنه بإسناد واحد .

[ ص: 170 ] وروى مالك عن سعيد المقبري ، عن عبيد بن جريج أنه سمع عبد الله بن عمر يقول : لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته . وابن جريج ، وغيره عن محمد بن المنكدر عن أنس ، مثله بمعناه ومحمد بن إسحاق ، عن أبي الزناد ، عن عائشة بنت سعد ، عن أبيها قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته ، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا أشرف على البيداء .

ففي هذه الآثار كلها الإهلال بالبيداء ، وهي مخالفة لحديث مالك في هذا الباب .

وقد ذكر هذه الآثار كلها أبو داود ، وهي آثار ثابتة ، صحاح من جهة النقل ، وحديث ابن عباس يفسر ما أوهم الاختلاف منها .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال : حدثنا سليمان بن الأشعث قال : حدثنا محمد بن منصور قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، قال : حدثني أبي ، عن ابن إسحاق قال : حدثني خصيف بن عبد الرحمن الجزري ، عن سعيد بن جبير قال : [ ص: 171 ] قلت لعبد الله بن عباس : يا أبا عباس ، عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أوجب ، فقال : إني لأعلم الناس بذلك ; خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجا فلما صلى بمسجده بذي الحليفة ركعتين أوجبه مجلسه ، فأهل بالحج حين فرغ من الركعتين فسمع منه أقوام فحفظ عنه ، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام ، وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به راحلته يهل ، فقالوا : إنما أهل حين استقلت به ناقته ، ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما وقف على شرف البيداء أهل ( بها وأدرك ذلك منه أقوام ، فقالوا : إنما أهل حين علا على شرف البيداء ) فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه .

قال أبو عمر : قد بان بهذا الحديث معنى اختلاف الآثار في هذا الباب ، وفيه تهذيب لها ، وتلخيص وتفسير لما كان ظاهره الاختلاف منها ، والأمر في هذا عند جميع العلماء ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية