الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
10 - " أن " المفتوحة المشددة

تجيء للتأكيد كالمكسورة ، واستشكله بعضهم لأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك منها لم تفد توكيدا ، وهو ضعيف لما علم من الفرق بين " أن والفعل والمصدر " .

وقال في المفصل : " إن " و " أن " تؤكدان مضمون الجملة إلا أن المكسورة ، الجملة معها على استقلالها بفائدتها .

قال ابن الحاجب : لأن وضع " إن " تأكيد للجملة من غير تغيير لمعناها ، فوجب أن تستقل بالفائدة بعد دخولها ، وأما المفتوحة فوضعها وضع الموصولات ، في أن الجملة معها كالجملة مع الموصول ، فلذلك صارت مع جملتها في حكم الخبر ، فاحتاجت إلى جزء آخر ليستقل معها بالكلام ، فتقول : إن زيدا قائم ، وتسكت . وتقول : أعجبني أن زيدا قائم ، فلا تجد بدا من هذا الجزء الذي معها ، لكونها صارت في حكم الجزء الواحد ، إذ معناه أعجبني قيام زيد ، ولا يستقل بالفائدة ما لم ينضم إليه جزء آخر ، فكذلك المفتوحة مع جملتها ، ولذلك وقعت فاعلة ومفعولة ومضافا إليها ، وغير ذلك مما تقع فيه المفردات .

ومن وجوه الفرق بينهما أنه لا تصدر بالمفتوحة الجملة كما تصدر بالمكسورة لأنها [ ص: 204 ] لو صدرت لوقعت مبتدأ ، والمبتدأ معرض لدخول إن فيؤدي إلى اجتماعهما .

ولأنها قد تكون بمعنى " لعل " كما في قوله تعالى : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ( الأنعام : 109 ) وتلك لها صدر الكلام ، فقصدوا إلى أن تكون هذه مخالفة لتلك في الوضع . يقصد من أول الأمر الفرق بينهما أي لعلها .

11 - إنما

لقصر الصفة على الموصوف ، أو الموصوف على الصفة ،
وهي للحصر عند جماعة كالنفي والاستثناء .

وفرق البيانيون بينهما فقالوا : الأصل أن يكون ما يستعمل له إنما مما يعلمه المخاطب ولا ينكره ، كقولك : إنما هو أخوك ، وإنما هو صاحبك القديم ، لمن يعلم ذلك ، ويقر به . وما يستعمل له النفي والاستثناء على العكس ، فأصله أن يكون مما يجهله المخاطب وينكره نحو : وما من إله إلا الله ( آل عمران : 62 ) .

ثم إنه قد ينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب فيستعمل له النفي والاستثناء نحو : وما محمد إلا رسول ( آل عمران : 144 ) الآية ونحو : إن أنتم إلا بشر مثلنا ( إبراهيم : 10 ) والرسل ما كانوا على دفع البشرية عن أنفسهم ، وادعاء الملائكية ، لكن الكفار كانوا يعتقدون أن الله لا يرسل إلا الملائكة ، وجعلوا أنهم بادعائهم النبوة ينفون عن أنفسهم البشرية ، فأخرج الكلام مخرج ما يعتقدون ، وأخرج الجواب أيضا مخرج ما قالوا حكاية لقولهم ، كما يحكي المجادل كلام خصمه ، ثم يكر عليه بالإبطال ، كأنه قيل : الأمر كما زعمتم أننا بشر ، ولكن ليس الأمر كما زعمتم من اختصاص الملائكة بالرسالة ، فإن الله يبعث من الملائكة رسلا ومن الناس .

[ ص: 205 ] وقد ينزل المجهول منزلة المعلوم لادعاء المتكلم ظهوره ، فيستعمل له " إنما " كقوله تعالى : إنما نحن مصلحون ( البقرة : 11 ) فإن كونهم مصلحين منتف فهو مجهول ، بمعنى أنه لم يعلم بينهم صلاح ، فقد نسبوا الإصلاح إلى أنفسهم ، وادعوا أنهم كذلك ظاهر جلي ، ولذلك جاء الرد عليهم مؤكدا من وجوه .

12 - " إلى " لانتهاء الغاية ، وهي مقابلة لـ " من " ، ثم لا يخلوا أن يقترن بها قرينة تدل على أن ما بعدها داخل فيما قبلها ، أو غير داخل ، وإن لم يقترن بها قرينة تدل على أن ما بعدها داخل فيما قبلها أو غير داخل ، فيصار إليه قطعا ، وإن لم يقترن بها .

واختلف في دخول ما بعدها في حكم ما قبلها على مذاهب .

( أحدها ) : لا تدخل إلا مجازا لأنها تدل على غاية الشيء ونهايته التي هي حده ، وما بعد الحد لا يدخل في المحدود ، ولهذا لم يدخل شيء من الليل في الصوم في قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل ( البقرة : 187 ) .

( الثاني ) : عكسه أي أنه يدخل ولا يخرج إلا مجازا ، بدليل آية الوضوء .

( والثالث ) : أنها مشتركة فيهما لوجود الدخول وعدمه .

( والرابع ) : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها أو جزءا كالمرافق ، دخل وإلا فلا .

والحق أنه لا يطلق فقد يدخل نحو : وأيديكم إلى المرافق ( المائدة : 6 ) وقد [ ص: 206 ] لا يدخل نحو : ثم أتموا الصيام إلى الليل ( البقرة : 187 ) .

وقيل في آية المرافق : إنها على بابها ، وذلك أن المرفق هو الموضع الذي يتكئ الإنسان عليه في رأس العضد ، وذلك هو المفصل وفريقه ، فيدخل فيه مفصل الذراع ، ولا يجب في الغسل أكثر منه . وقيل : " إلى " تدل على وجوب الغسل إلى المرافق ، ولا ينبغي وجوب غسل المرفق لأن الحد لا يدخل في المحدود ، ولا ينفيه التحديد ، كقولك : سرت إلى الكوفة فلا يقتضي دخولها ولا ينفيه ، كذلك المرافق إلا أن غسله ثبت بالسنة .

ومنشأ الخلاف في آية الوضوء أن " إلى " حرف مشترك ، يكون للغاية والمعية ، واليد تطلق في كلام العرب على ثلاثة معان : على الكفين فقط ، وعلى الكف والذراع والعضد ، فمن جعل " إلى " بمعنى " مع " ، وفهم من اليد مجموع الثلاثة ، أوجب دخوله في الغسل ، ومن فهم من " إلى " الغاية ، ومن اليد ما دون المرفق لم يدخلها في الغسل .

قال الآمدي : ويلزم من جعلها بمعنى " مع " أن يوجب غسلها إلى المنكب ; لأن العرب تسميه يدا . وقد تأتي بمعنى مع كقوله : من أنصاري إلى الله ( آل عمران : 52 ) . ويزدكم قوة إلى قوتكم ( هود : 52 ) . ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ( النساء : 2 ) . وأيديكم إلى المرافق ( المائدة : 6 ) . وإذا خلوا إلى شياطينهم ( البقرة : 11 ) .

وقيل : ترجع إلى الانتهاء ، والمعنى في الأول : من يضيف نصرته إلى نصرة الله ، وموضعها حال أي من أنصاري مضافا إلى الله .

والمعنى في الأخرى : ولا تضيفوا [ ص: 207 ] أموالكم إلى أموالهم وكني عنه بالأكل كما قال : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( البقرة : 188 ) أي لا تأخذوا .

وقد تأتي للتبيين ، قال ابن مالك : وهي المعلقة في تعجب أو تفضيل بحب أو بغض مبينة لفاعلية مصحوبها كقوله تعالى : قال رب السجن أحب إلي ( يوسف : 33 ) .

ولموافقة اللام كقوله : والأمر إليك ( النمل : 33 ) وقيل : للانتهاء وأصله والأمر إليك . وكقوله : ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( يونس : 25 ) وموافقة " في " في قوله تعالى : هل لك إلى أن تزكى ( النازعات : 18 ) وقيل : المعنى بل أدعوك إلى أن تزكى .

وزائدة كقراءة بعضهم : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ( إبراهيم : 37 ) بفتح الواو . وقيل : ضمن " تهوى " معنى " تميل " .

التالي السابق


الخدمات العلمية