الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1608 (باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم)

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي: هذا باب في بيان من أشعر هديه، وفي بيان من قلده والكلام في هذين الفصلين على أنواع:

                                                                                                                                                                                  الأول: في تفسير الإشعار لغة، وهو من الشعور في الأصل، وهو العلم بالشيء من شعر يشعر من باب نصر ينصر؛ إذا علم، وأشعر من الإشعار، بكسر الهمزة، وهو الإعلام.

                                                                                                                                                                                  النوع الثاني: في تفسيره شرعا، وهو أن يضرب صفحة سنامها اليمنى بحديدة حتى تتلطخ بالدم ظاهرا، ولا نظر إلى ما فيه من الإيلام؛ لأنه لا منع إلا ما منعه الشرع، وذكر القزاز: أشعرها إشعارا وإشعارها؛ أن يوجأ أصل سنامها بسكين، سميت بما حل فيها؛ وذلك لأن الذي فعل بها علامة تعرف بها، وفي المحكم: هو أن يشق جلدها أو يطعنها حتى يظهر الدم، وزعم ابن قرقول أن إشعارها هو تعليمها بعلامة بشق جلد سنامها عرضا من الجانب الأيمن، هذا عند الحجازيين، وأما العراقيون فالإشعار عندهم تقليدها بقلادة، وقيل: الإشعار أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم، ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديا.

                                                                                                                                                                                  النوع الثالث: في كيفية الإشعار والاختلاف الذي فيها، قال أبو يوسف ومحمد: كيفية الإشعار أن يطعنها في أسفل سنامها من الجانب الأيسر حتى يسيل الدم، وعند الشافعي وأحمد في قول: الأيمن، وقال السفاقسي: إذا كانت البدنة ذللا أشعرها من الأيسر، وإن كانت صعبة قرن بدنتين، ثم قام بينهما وأشعر إحداهما من الأيمن، والأخرى من الأيسر. وقال ابن قدامة: وعن أحمد من الجانب الأيسر؛ لأن ابن عمر فعله وبه قال مالك، وحكاه ابن حزم عن مجاهد يقول: كانوا يستحبون الإشعار في الجانب الأيسر، وفي شرح الموطأ للإشبيلي: وجائز الإشعار في الجانب الأيمن، وفي الجانب الأيسر، وكان ابن عمر رضي الله عنهما ربما فعل هذا وربما فعل هذا، وأكثر أهل العلم يستحبون في الجانب الأيمن؛ منهم الشافعي وإسحاق لحديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها اليمنى، ثم سلت الدم عنها وقلدها بنعلين، أخرجه مسلم. وعند أبي داود: ثم سلت الدم بيده، وفي لفظ: ثم سلت الدم بإصبعه، وقال ابن حبيب: يشعر طولا، وقال السفاقسي: عرضا، والعرض عرض السنام من العنق إلى الذنب، وقال مجاهد: أشعر من حيث شئت، ثم قال: والإشعار طولا في شق البعير أخذا من جهة مقدم البعير إلى جهة عجزه، فيكون مجرى الدم عريضا فيتبين الإشعار، ولو كان مع عرض البعير كان مجرى الدم يسيرا خفيفا لا يقع به مقصود الإعلان بالهدي.

                                                                                                                                                                                  (النوع الرابع) في صفة الإشعار: ذهب جمهور العلماء إلى أن الإشعار سنة، وذكر ابن أبي شيبة في مصنفه بأسانيد جيدة، عن عائشة وابن عباس : إن شئت فأشعر، وإن شئت فلا ، وقال ابن حزم في المحلى: قال أبو حنيفة: أكره الإشعار وهو مثلة وقال: هذه طامة من طوام العالم أن يكون مثلة شيء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أف لكل عقل يتعقب حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويلزمه أن تكون الحجامة وفتح العرق مثلة فيمنع من ذلك، وهذه قولة لا نعلم لأبي حنيفة فيها متقدما من السلف ولا موافقا من فقهاء عصره إلا من ابتلاه الله تعالى بتقليده. (قلت): هذا سفاهة وقلة حياء؛ لأن الطحاوي الذي هو أعلم الناس بمذاهب الفقهاء، ولا سيما بمذهب أبي حنيفة، ذكر أن أبا حنيفة لم يكره أصل الإشعار ولا كونه سنة، وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاكها لسراية الجرح لا سيما في حر الحجاز مع الطعن بالسنان أو الشفرة، فأراد سد الباب على العامة؛ لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأما من وقف على الحد فقطع الجلد دون اللحم فلا يكرهه، وذكر الكرماني صاحب المناسك عنه استحسانه، قال: وهو الأصح لا سيما إذا كان بمبضع ونحوه، فيصير كالفصد والحجامة.

                                                                                                                                                                                  وأما قوله: وهذه قولة لا نعلم لأبي حنيفة فيها متقدم من السلف فقول فاسد؛ لأن ابن بطال ذكر أن إبراهيم النخعي أيضا لا يرى بالإشعار، ولما روى الترمذي حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قلد نعلين وأشعر الهدي في الشق الأيمن بذي الحليفة [ ص: 36 ] وأماط عنه الدم، قال: سمعت يوسف بن عيسى يقول: سمعت وكيعا يقول حين روى هذا الحديث: لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة وقولهم بدعة، قال: وسمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويقول أبو حنيفة: هو مثلة، قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة، قال: فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا، وقال: أقول لك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال إبراهيم، ما أحقك بأن تحبس، ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا. انتهى.

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي: لا أعلم أحدا يكره الإشعار إلا أبا حنيفة، قال: وخالفه صاحباه وقالا بقول عامة أهل العلم. (قلت): الجواب عما نقله الترمذي، عن وكيع، وعما قاله الخطابي، وعن قول كل من يتعقب على أبي حنيفة بمثل هذا يحصل مما قاله الطحاوي، وقد رأيت كل ما ذكره، وفيه أريحية العصبية والحط على من لا يجوز الحط عليه، وحاشا من أهل الإنصاف أن يصدر منهم ما لا يليق ذكره في حق الأئمة الأجلاء على أن أبا حنيفة قال: لا أتبع الرأي والقياس إلا إذا لم أظفر بشيء من الكتاب أو السنة أو الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهذا ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهم قد خير صاحب الهدي في الإشعار وتركه على ما ذكرناه عن قريب، وهذا يشعر منهما أنهما كانا لا يريان الإشعار سنة ولا مستحبا.

                                                                                                                                                                                  (النوع الخامس) في الحكمة في الإشعار؛ منها: أن البدنة التي أشعرت إذا اختلطت بغيرها تميزت، وإذا ضلت عرفت، ومنها: أن السارق ربما ارتدع فتركها، ومنها: أنها قد تعطب فتنحر، فإذا رأى المساكين عليها العلامة أكلوها وأنهم يتبعونها إلى المنحر لينالوا منها، ومنها: أن فيها تعظيم شعار الشرع وحث الغير عليه.

                                                                                                                                                                                  النوع السادس: أن الإشعار مختص بالإبل أم لا؟ فقال ابن بطال: اختلفوا في إشعار البقرة، فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشعر في أسنمتها، وحكاه ابن حزم عن أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه- أيضا، وقال الشعبي: تقلد وتشعر، وهو قول أبي ثور، وقال مالك: تشعر التي لها سنام وتقلد، ولا تشعر التي لا سنام لها، وقال سعيد بن جبير: تقلد ولا تشعر، وأما الغنم فلا يسن إشعارها؛ لضعفها، ولأن صوفها يستر موضع الإشعار، وقال ابن التين: وما علمت أحدا ذكر الخلاف في البقرة المسمنة إلا الشيخ أبا إسحاق، وما أراه موجودا.

                                                                                                                                                                                  النوع السابع في التقليد، وهو سنة بالإجماع، وهو تعليق نعل أو جلد ليكون علامة الهدي، وقال أصحابنا: لو قلد بعروة مزادة، أو لحى شجرة أو شبه ذلك جاز؛ لحصول العلامة، وذهب الشافعي والثوري إلى أنها تقلد بنعلين، وهو قول ابن عمر، وقال الزهري ومالك: يجزئ واحدة، وعن الثوري: يجزئ فم القربة، ونعلان أفضل لمن وجدهما.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال: غرض البخاري من هذه الترجمة أن يبين أن المستحب أن لا يشعر المحرم ولا يقلد إلا في ميقات بلده، وقيل: الذي يظهر أن غرضه الإشارة إلى رد قول مجاهد، فإنه قال: لا يشعر حتى يحرم، وهو عكس ما في الترجمة.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية