الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمد بن إسماعيل ) : أي البخاري صاحب الصحيح إمام المحدثين ، كنيته أبو عبد الله روي أنه رؤي في البصرة قبل أن تطلع لحيته وخلفه ألوف من طلبة الحديث ، وروى أنه كان يكتب باليمين واليسار ، وروي عنه أنه قال : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح . ( حدثنا أبو نعيم ) : بضم النون وفتح عين مهملة وسكون التحتية ، وهو الفضل بن دكين بضم الدال المهملة من كبار شيوخ البخاري ، ذكر الرافعي في كتاب التدوين أنه رمي بالتشيع ، قيل وكان مزاحا ذا دعابة مع فقهه ودينه وكان في غاية الإتقان والحفظ وهو حجة . ( حدثنا المسعودي ) : اسمه عبد الرحمن بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي المسعودي ، ذكره ميرك ، قال العصام : صدوق اختلط قبل موته ومن سمع عنه ببغداد فبعد الاختلاط ، انتهى . وقال النسائي لا بأس به وهو من كبار أتباع التابعين . ( عن عثمان مسلم بن هرمز ) : بضم الهاء والميم وسكون الراء وفتح الزاي وفي نسخة منصرف ، وهو نسائي وعثمان هذا فيه لين ، أخرج حديثه الترمذي والنسائي في مسند علي له . ( عن نافع بن جبير ) : بالتصغير . ( بن مطعم ) : كمسلم وهو تابعي جليل ، سمع عليا وعدة من الأصحاب ، وأبوه من كبار الصحابة . ( عن علي بن أبي طالب ) : قال العصام : يعني به أمير المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب من رواة الحديث تسعة ، فترك وصفه بأمير المؤمنين خلاف الأولى ، انتهى . وهذا غفلة عن اصطلاح المحدثين من أنه إذا أطلق علي في آخر الإسناد فهو المراد كما إذا أطلق عبد الله فهو ابن مسعود ، وإذا أطلق الحسن فهو البصري ، ونظيره إطلاق أبي بكر وعمر وعثمان ، ولم أر من ذكرهم بقيد المؤمنين مع أنه لا شبهة في عدم مشاركة الأسماء المذكورة لهذا الوصف بل ولا يعرف من الصحابة من يسمى بعلي بن أبي طالب غيره ، فهذا نشأ من عرق العجم - وإن كنت منهم - وهو أبو الحسن وأبو تراب ، واسم أبي طالب عبد مناف الهاشمي القرشي ، وأمه فاطمة بنت أسد الهاشمية أسلمت وهاجرت ، وهو كرم الله وجهه أول من أسلم من الصبيان وقيل من الذكور ، وقد اختلف في سنه يومئذ فقيل كان له خمس عشرة وقيل أربع عشرة وقيل ثلاث عشرة [ ص: 25 ] وقيل ثماني سنين وقيل عشر سنين شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها غير تبوك فإنه خلفه في أهله وفيها ، قال له : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، استخلف يوم قتل عثمان وهو يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، وضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي بالكوفة صبيحة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين ومات بعد ثلاث ليال من ضربته وغسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلى عليه الحسن ودفن سحرا وله من العمر ثلاث وستون سنة ، وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر وأياما ، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين ، وكان يوم مات أفضل الأحياء من بني آدم على وجه الأرض بإجماع أهل السنة ، ثم رأيت الاستيعاب لابن عبد البر في ذكر الأصحاب فلم يذكر علي بن أبي طالب غيره وإنما ذكر المسمى بعلي خمسة أنفس أحدهم لم يثبت له صحبة . ( قال لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بالطويل ولا بالقصير ) : كأن المراد أنه لم يكن كذلك في سن ، فإنه في كل سن من سني النبوة كان ربعة ، والمعنى أنه كان دائما يوصف بالاعتدال . ( شثن الكفين والقدمين ) : قال ميرك : الرواية فيه بالرفع فيكون خبرا لهو المحذوف ، ويجوز النصب ليكون خبرا لكان المقدر ولا يخلو تكلفه وليس هو رواية المحدثين والمنتحلين ، وقال العصام : يروى مرفوعا خبر مبتدأ محذوف أتى بالجملة الاسمية بعد الماضوية لأنه خيله غلبان محبته عليه السلام عند ذكره أنه موجود متحقق فجرى لسانه في الوصف جريانه في وصف الموجود بما يتصف به في الحال ، وفيه تنبيه نبيه على أن ذكره صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يكون كذلك ، والشثن جعله حالا أو استئنافا ليس بذلك فرواية النصب على أنه حال ليست بتلك الجزالة وجعله خبرا لكان بحسب المفهوم لأن قوله ليس بالطويل ولا بالقصير في معنى كان ربعة تكلف جدا ، انتهى .

وقد أغرب ابن حجر حيث رجح النصب على الرفع ، ثم الشثن بفتح الشين المعجمة وسكون الثاء المثلثة ويقال بفتحها أو كسرها أيضا بعدها نون فسره الأصمعي فيما نقله عنه المؤلف - كما سيأتي بيانه - بالغليظ الأصابع من الكفين والقدمين ، وقال الشيخ ابن حجر العسقلاني : أي غليظ الأصابع والراحة ، وفي رواية أخرى ضخم الكفين والقدمين ، قال : وفسره الخطابي بالغلظ والاتساع وهو المراد هنا ، قال : ونقل عن الأصمعي أنه فسر في موضوع آخر الشثن بالخشن فقيل له أنه ورد في وصف كفه صلى الله عليه وسلم اللين والنعومة فآلى على نفسه أن لا يفسر شيئا في الحديث ، وقال غيره هو غلظ في الراحة والأخمص أيضا ، قال ابن بطال : كانت كفه صلى الله عليه وسلم ممتلئة لحما غير أنها مع غاية ضخامتها وغلظتها كانت لينة كما ثبت في حديث أنس المروي في الصحيح ما مسست خزا ولا حريرا ألين من كفه صلى الله عليه وسلم ، قال : وعلى تقدير تسليم ما فسر الأصمعي به الشثن يحتمل أن يكون الراوي وصف حالتي كف النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا عمل في الجهاد أو مهنة أهله صار كفه خشنا للعارض المذكور وإذا ترك ذلك صار كفه إلى أصل جبلته من النعومة [ ص: 26 ] وقال القاضي : فسر أبو عبيدة اللغوي : الشثن بغلظ الأصابع والكف مع القصر ، وتعقب بأنه ثبت في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه كان سائل الأطراف - كما سيأتي في الباب أيضا - ويؤيده ما ثبت في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم كان بسط الكفين ، أورد البخاري من حديث أنس معلقا . . . ووصله البيهقي في الدلائل : والبسط بالموحدة والمهملتين ، وفي رواية : سبط بمهملتين بينهما موحدة وهما بمعنى ، والمراد أن في كفه وأصابعه صلى الله عليه وسلم طولا غير مفرط وهو مما يحمد في الرجال لأنه أشد لقبضهم ويذم في النساء ، قال العسقلاني : أما من فسر البسط ببسط العطاء فإنه وإن كان الواقع كذلك لكن ليس مرادا هنا ، والتحقيق أن الشثن الواقع في صفته صلى الله عليه وسلم معناه الغلظ من غير قيد قصر ولا خشونة ، انتهى . وفي النهاية أنهما يميلان إلى الغلظ والقصر وهو الظاهر جمعا بين الروايات واللغات ، وأما قول العصام : والشثن بمثلثتين أو بمثلثة ومثناة فوقانية كما في بعض النسخ فمخالف لما في الأصول المصححة وإن كان لغة على ما في القاموس . ( ضخم الرأس ) : بالضاد المعجمة على وزن الضرب الغليظ من كل شيء وفي رواية عظيم الهامة ، ووصفه بذلك ورد عن غير علي أيضا من طرق صحيحة ، وهو دال على كمال القوى الدماغية وبكمالها يتميز الإنسان عن غيره . ( ضخم الكراديس ) : أي رءوس العظام نحو المنكبين والركبتين والوركين على ما في الفائق ، جمع كردوس بضمتين : كل عظمتين التقيا في مفصل على ما في القاموس ، أراد أنه جسيم الأعضاء وهو وما قبله يدل على نجابة صاحبه ، ولما لم يكن مناسبة بين الرأس والكراديس أفرد كل بالإضافة بخلاف الكف والقدمين . ( طويل المسربة ) : بفتح الميم وسكون السين المهملة وضم الراء وبالموحدة وهو شعر بين الصدر والسرة على ما في المهذب ، وفي رواية ذو مسربة وفي أخرى عند البيهقي له شعرات من سرته تجري كالقضيب ليس على صدره ولا على بطنه غيرها ، وعند الطيالسي والطبراني ما رأيت بطنه إلا ذكرت القراطيس المثنى بعضها على بعض ، والحاصل أنه ما دق من شعر الصدر سائلا إلى السرة - كما سيذكر في حديث علي رضي الله عنه - المسربة الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة . ( إذا مشى تكفأ تكفؤا ) : بالهمز فيهما ، وفي نسخة تكفى بالألف المنقلبة عن ياء تكفيا بكسر الفاء المشددة بعدها ياء تحتية أي تمايل إلى قدام ، وهي جملة أخرى مستأنفة ، قال ميرك : وتكفؤا مصدر مؤكد وهو في الأصل مهموز ويخفف ، فإذا روي على الأصل يقرأ بضم الفاء كتقدم تقدما ، وإذا خفف يقرأ تكفى تكفيا بكسر الفاء كتسمى تسميا ، وكذا وقع في بعض النسخ ، انتهى . وفي النهاية هكذا روي غير مهموز والأصل الهمز ، وبعضهم يرويه مهموزا ; لأن مصدر تفعل من الصحيح تفعل كتقدم تقدما وتكفأ تكفؤا والهمزة حرف صحيح وأما إذا اعتل انكسر عين المصدر منه نحو تخفى تخفيا فإذا خففت الهمزة التحق بالمعتل فصار تكفيا بالكسر ، وقال النووي : وزعم كثير أن أكثر ما يروى بلا همزة وليس كذلك . ( كأنما ) : وفي نسخة كأنه . ( ينحط ) : وهو بتشديد الطاء . ( من صبب ) : قريب من معنى التكفؤ فهو مبين لمفهوم إذا [ ص: 27 ] مشى كذا قيل والأظهر أنه حال من فاعل تكفأ ، والانحطاط النزول والإسراع وأصله الانحدار من علو إلى سفل ، وأسرع ما يكون الماء جاريا إذا كان منحدرا فمن بمعنى في كما في نسخة ، والصبب بفتحتين الحدور فالمعنى فكأنما ينزل في موضع منحدر ، وقيل : هو ما انحدر من الأرض ، وفي حديث الطواف حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي أي انحدرت في المسعى وفي رواية كأنما يهوى في صبوب وهو بالضم جمع صبب ، قال في شرح السنة : يريد أنه كان يمشي مشيا قويا يرفع رجليه من الأرض رفعا ثابتا لا كمن يمشي اختيالا ويقارب خطاه تنعما ، قيل : ولم يدغم صبب لئلا يلتبس بالصب الذي هو بمعنى العاشق . ( لم أر قبله ولا بعده مثله ) : جملة أخرى منبئة عن جماله وكماله وتستعمل هذه العبارة في نفي الشبيه من غير ملاحظة القبلية والبعدية ومفهومها في الخارج حتى يرد أن عليا لم ير أحدا قبله صلى الله عليه وسلم ، ويجاب بأن التقدير لم أر قبل موته وبعده مثله ، مع أنه يمكن أن تكون الرؤية علمية ، ثم نفي المثل يدل عرفا على كونه أحسن من كل أحد كما يقال في ليس في البلد مثل زيد ، والسر فيه أنه إذا نفي المثل الذي هو أقرب إليه من الأحسن في مقام ذكر المحاسن فكان نفي الأحسن بالأولى والأحرى .

( حدثنا سفيان بن وكيع ) : أي ابن الجراح بن مليح ، وهو أبو محمد الرواسي الكوفي ، كان صدوقا إلا أنه ابتلي بالوراقة وهي حرفة ضرب الدراهم فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل فسقط حديثه ، أخرج حديثه الترمذي وابن ماجه قيل وكان من المكثرين في الحديث وجمعه ، يروي عن أبيه ومطلب بن زياد ، قيل : هو ضعيف . ( قال حدثنا أبي ) : يريد أباه وكيعا . ( عن المسعودي ) : متعلق بحدثنا أبي . ( بهذا الإسناد ) : متعلق بكل من قوله حدثنا سفيان ، وقوله حدثنا أبي [ ص: 28 ] على سبيل التنازع ، والإسناد رفع الحديث إلى قائله ، والسند الإخبار عن طريق المتن وهما متقاربان ولذا يستعملهما المحدثون لشيء واحد . ( نحوه ) : أي نحو الحديث المذكور قبله . ( بمعناه ) : أي بلفظ آخر مفيد لمعنى المتقدم ، قال ميرك : واعلم أنه قد جرت عادة أصحاب الحديث أن الحديث إذا روي بإسنادين أو أكثر وساقوا الحديث بإسناد أولا ثم ساقوا إسنادا آخر يقولون في آخره مثله أو نحوه اختصارا ، والمثل يستعمل بحسب الاصطلاح فيما إذا كانت الموافقة بين الحديثين في اللفظ والمعنى والنحو يستعمل إذا كانت الموافقة في المعنى فقط هذا هو المشهور فيما بينهم وقد يستعمل كل واحد منهما مقام الآخر فعلى هذا قوله بمعناه لا إرادة أن النحو يستعمل في هذا المقام للمعنى دون اللفظ مجازا ، انتهى . وقال العصام : نحوه ; مفعول حدثنا الثاني أو الأول ومفعول الأخير محذوف ، والراجح عند البصريين الأول ، فإن قلت : قد تحقق أن سفيان ساقط الحديث فكيف ذكر الحديث بإسناده بعد الإسناد العالي ؟ قلت : صار ساقط الحديث آخرا ورواية من لا يحتج به ربما تذكر في المتابعة والشاهد فأراد تأييد حديث البخاري بالشاهد ، والشاهد ما يوافق الحديث المسند بهذا الإسناد في المعنى ، والمتابع ما يؤيده من الموافق في اللفظ المخالف في الإسناد لكن بشرط الموافقة في مرتبة من مراتب الإسناد ، فإن وافق في شيخ الراوي فالمتابعة تامة وإلا فناقصة ، وتفصيل هذا البحث في شرح النخبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية