الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ومثال ( القسم الثالث ) مما نقله غير ثقة كثير مما في كتب الشواذ مما غالب إسناده ضعيف كقراءة ابن السميفع وأبي السمال وغيرهما في ننجيك ببدنك ( ننحيك ) : بالحاء المهملة ، لتكون لمن خلفك آية بفتح سكون اللام ، وكالقراءة المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - التي جمعها أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي ونقلها عنه أبو القاسم الهذلي وغيره ، فإنها لا أصل لها ، قال أبو العلاء الواسطي : إن الخزاعي وضع كتابا في الحروف نسبه إلى أبي حنيفة فأخذت خط الدارقطني وجماعة أن الكتاب موضوع لا أصل له .

                                                          ( قلت ) : وقد رويت الكتاب المذكور ومنه إنما يخشى الله من عباده العلماء برفع الهاء ونصب الهمزة ، وقد راج ذلك على أكثر المفسرين ونسبها إليه وتكلف توجيهها ، وإن أبا حنيفة لبريء منها ، ومثال ما نقله ثقة ولا وجه له في العربية ولا يصدر مثل هذا إلا على وجه السهو والغلط وعدم الضبط ويعرفه الأئمة المحققون والحفاظ الضابطون وهو قليل جدا ، بل لا يكاد يوجد ، وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع ( معائش ) بالهمز ، وما رواه ابن بكار عن أيوب عن يحيى عن ابن عامر من فتح ياء ( أدري أقريب ) مع إثبات الهمزة ، وهي رواية زيد وأبي حاتم عن يعقوب ، وما رواه أبو علي العطار عن العباس عن أبي عمرو ( ساحران تظاهرا ) بتشديد الظاء ، والنظر في ذلك لا يخفى ، ويدخل في هذين القسمين ما يذكره بعض المتأخرين من شراح الشاطبية في وقف حمزة على نحو ( أسمايهم ) و ( أوليك ) بياء خالصة ، ونحو ( شركاوهم ) و ( أحباوه ) بواو خالصة ، ونحو ( بداكم ) و ( اخاه ) بألف خالصة ، ونحو ( راى : را ، وتراى : ترا ، واشمازت : اشمزت ، وفاداراتم : فادارتم ) بالحذف في ذلك كله مما يسمونه التخفيف الرسمي ولا يجوز في وجه [ ص: 17 ] من وجوه العربية ، فإنه إما أن يكون منقولا عن ثقة ولا سبيل إلى ذلك فهو مما لا يقبل ، إذ لا وجه له ، وإما أن يكون منقولا عن غير ثقة فمنعه أحرى ورده أولى ، مع أني تتبعت ذلك فلم أجد منصوصا لحمزة لا بطرق صحيحة ولا ضعيفة ، وسيأتي بيان ذلك في بابه إن شاء الله ، وبقي قسم مردود أيضا وهو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة ، فهذا رده أحق ومنعه أشد ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر ، وقد ذكر جواز ذلك عن أبي بكر محمد بن الحسن بن مقسم البغدادي المقري النحوي ، وكان بعد الثلاثمائة .

                                                          قال الإمام أبو طاهر بن أبي هاشم في كتابه البيان : وقد نبغ نابغ في عصرنا فزعم أن كل من صح عنده وجه في العربية بحرف من القرآن يوافق المصحف فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها ، فابتدع بدعة ضل بها عن قصد السبيل .

                                                          ( قلت ) : وقد عقد له بسبب ذلك مجلس ببغداد حضره الفقهاء والقراء وأجمعوا على منعه ، وأوقف للضرب فتاب ورجع وكتب عليه بذلك محضر كما ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد ، وأشرنا إليه في الطبقات ، ومن ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه كما روينا عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - من الصحابة ، وعن ابن المنكدر وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وعامر الشعبي من التابعين أنهم قالوا : القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول فاقرءوا كما علمتموه ، ولذلك كان الكثير من أئمة القراءة ، كنافع وأبي عمرو يقول : لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قرأت ، لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا ، ( أما ) إذا كان القياس على إجماع انعقد ، أو عن أصل يعتمد فيصير إليه عند عدم النص وغموض وجه الأداء ، فإنه مما يسوغ قبوله ولا ينبغي رده لا سيما فيما تدعو إليه الضرورة وتمس الحاجة مما يقوي وجه الترجيح ويعين على قوة التصحيح ، بل قد لا يسمى ما كان كذلك قياسا على الوجه الاصطلاحي ، إذ هو في الحقيقة نسبة جزئي إلى كلي كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء وفي إثبات [ ص: 18 ] البسملة وعدمها لبعض القراء ، ونقل ( كتابيه اني ) وإدغام ( ماليه هلك ) قياسا عليه ، وكذلك قياس ( قال رجلان ، وقال رجل ) على ( قال رب ) في الإدغام كما ذكره الداني وغيره ، ونحو ذلك مما لا يخالف نصا ولا يرد إجماعا ولا أصلا مع أنه قليل جدا كما ستراه مبينا بعد إن شاء الله تعالى ، وإلى ذلك أشار مكي بن أبي طالب - رحمه الله - في آخر كتابه التبصرة حيث قال : فجميع ما ذكرناه في هذا الكتاب ينقسم ثلاثة أقسام : قسم قرأت به ونقلته وهو منصوص في الكتب موجود ، وقسم قرأت به وأخذته لفظا أو سماعا وهو غير موجود في الكتب ، وقسم لم أقرأ به ولا وجدته في الكتب ولكن قسته على ما قرأت به ، إذ لا يمكن فيه إلا ذلك عند عدم الرواية في النقل والنص وهو الأقل .

                                                          ( قلت ) : وقد زل بسبب ذلك قوم وأطلقوا قياس ما لا يروى على ما روي ، وما له وجه ضعيف على الوجه القوي ، كأخذ بعض الأغبياء بإظهار الميم المقلوبة من النون والتنوين ، وقطع بعض القراء بترقيق الراء الساكنة قبل الكسرة والياء ، وإجازة بعض من بلغنا عنه ترقيق لام الجلالة تبعا لترقيق الراء من ذكر الله ، إلى غير ذلك مما تجده في موضعه ظاهرا في التوضيح مبينا في التصحيح مما سلكنا فيه طريق السلف ولم نعدل فيه إلى تمويه الخلف ، ولذلك منع بعض الأئمة تركيب القراءات بعضها ببعض وخطأ القارئ بها في السنة والفرض ، ( قال ) الإمام أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في كتابه جمال القراء : وخلط هذه القراءات بعضها ببعض خطأ . ( وقال ) الحبر العلامة أبو زكريا النووي في كتابه التبيان : وإذا ابتدأ القارئ بقراءة شخص من السبعة فينبغي أن لا يزال على تلك القراءة ما دام للكلام ارتباط ، فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة آخر من السبعة والأولى دوامه على تلك القراءة في ذلك المجلس .

                                                          ( قلت ) : وهذا معنى ما ذكره أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه . وقال الأستاذ أبو إسحاق الجعبري : والتركيب ممتنع في كلمة وفي كلمتين إن تعلق أحدهما بالآخر وإلا كره .

                                                          ( قلت ) : وأجازها أكثر الأئمة مطلقا وجعل خطأ مانعي ذلك [ ص: 19 ] محققا ، والصواب عندنا في ذلك التفصيل والعدول بالتوسط إلى سواء السبيل ، فنقول : إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى فالمنع من ذلك منع تحريم ، كمن يقرأ فتلقى آدم من ربه كلمات بالرفع فيهما ، أو بالنصب آخذا رفع آدم من قراءة غير ابن كثير ورفع كلمات من قراءة ابن كثير ، ونحو وكفلها زكريا بالتشديد مع الرفع ، أو عكس ذلك ، ونحو أخذ ميثاقكم وشبهه مما يركب بما لا تجيزه العربية ولا يصح في اللغة ، وأما ما لم يكن كذلك فإنا نفرق فيه بين مقام الرواية وغيرها ، فإن قرأ بذلك على سبيل الرواية ، فإنه لا يجوز أيضا من حيث إنه كذب في الرواية وتخليط على أهل الدراية ، وإن لم يكن على سبيل النقل ، بل على سبيل القراءة والتلاوة ، فإنه جائز صحيح مقبول لا منع منه ولا حظر ، وإن كنا نعيبه على أئمة القراءات العارفين باختلاف الروايات من وجه تساوي العلماء بالعوام لا من وجه أن ذلك مكروه أو حرام ، إذ كل من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين تخفيفا عن الأمة ، وتهوينا على أهل هذه الملة ، فلو أوجبنا عليهم قراءة كل رواية على حدة لشق عليهم تمييز القراءة الواحدة وانعكس المقصود من التخفيف وعاد بالسهولة إلى التكليف ، وقد روينا في المعجم الكبير للطبراني بسند صحيح عن إبراهيم النخعي قال : قال عبد الله بن مسعود : ( ليس الخطأ أن يقرأ بعضه في بعض ، ولكن أن يلحقوا به ما ليس منه ) .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية