الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما من فرق بين الحقيقة والمجاز ; بأن الحقيقة ما يفيد المعنى مجردا عن القرائن ، والمجاز ما لا يفيد ذلك المعنى إلا مع قرينة ، أو قال : " الحقيقة " : ما يفيده اللفظ المطلق . و " المجاز " : ما لا يفيد إلا مع التقييد . أو قال : " الحقيقة " هي المعنى الذي يسبق إلى الذهن عند الإطلاق . " والمجاز " ما لا يسبق إلى الذهن . أو قال : " المجاز " ما صح نفيه و " الحقيقة " ما لا يصح نفيها ، فإنه يقال : ما تعني بالتجريد عن القرائن والاقتران بالقرائن ؟ إن عني بذلك القرائن اللفظية مثل كون الاسم يستعمل مقرونا بالإضافة أو لام التعريف ويقيد بكونه فاعلا ومفعولا ومبتدأ وخبرا فلا يوجد قط في الكلام المؤلف اسم إلا مقيدا . وكذلك الفعل إن عني بتقييده أنه لا بد له من فاعل وقد يقيد بالمفعول به وظرفي الزمان والمكان والمفعول له ومعه والحال فالفعل لا يستعمل قط إلا مقيدا وأما الحرف فأبلغ فإن الحرف أتي به لمعنى في غيره . ففي الجملة لا يوجد قط في كلام تام اسم ولا فعل ولا حرف إلا مقيدا بقيود تزيل عنه الإطلاق . فإن كانت القرينة مما يمنع الإطلاق عن كل [ ص: 101 ] قيد فليس في الكلام الذي يتكلم به جميع الناس لفظ مطلق عن كل قيد سواء كانت الجملة اسمية أو فعلية ولهذا كان لفظ " الكلام " و " الكلمة " في لغة العرب بل وفي لغة غيرهم لا تستعمل إلا في المقيد . وهو الجملة التامة اسمية كانت أو فعلية أو ندائية إن قيل إنها قسم ثالث . فأما مجرد الاسم أو الفعل أو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فهذا لا يسمى في كلام العرب قط كلمة وإنما تسمية هذا كلمة اصطلاح نحوي كما سموا بعض الألفاظ فعلا وقسموه إلى فعل ماض ومضارع وأمر ، والعرب لم تسم قط اللفظ فعلا ; بل النحاة اصطلحوا على هذا فسموا اللفظ باسم مدلوله فاللفظ الدال على حدوث فعل في زمن ماض سموه فعلا ماضيا وكذلك سائرها .

                وكذلك حيث وجد في الكتاب والسنة بل وفي كلام العرب نظمه ونثره لفظ كلمة ; فإنما يراد به المفيد التي تسميها النحاة جملة تامة كقوله تعالى : { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا } { ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } . وقوله تعالى { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا } . وقوله تعالى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } . وقوله : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } . وقوله : { وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها } . وقول النبي صلى الله عليه وسلم " { أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :

                ألا كل شيء ما خلا الله باطل

                } [ ص: 102 ] وقوله " { كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم } " . وقوله . " { إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة } " . وقوله : " { لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن : سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله مداد كلماته } " . وإذا كان كل اسم أو فعل أو حرف يوجد في الكلام فإنه مقيد لا مطلق لم يجز أن يقال للفظ الحقيقة ما دل مع الإطلاق والتجرد عن كل قرينة تقارنه . فإن قيل : أريد بعض القرائن دون بعض قيل له : اذكر الفصل بين القرينة التي يكون معها حقيقة والقرينة التي يكون معها مجاز ولن تجد إلى ذلك سبيلا تقدر به على تقسيم صحيح معقول .

                ومما يدل على ذلك أن الناس اختلفوا في " العام " إذا خص هل يكون استعماله فيما بقي حقيقة أو مجازا ؟ وكذلك لفظ " الأمر " إذا أريد به الندب هل يكون حقيقة أو مجازا ؟ وفي ذلك قولان لأكثر الطوائف : لأصحاب أحمد قولان ولأصحاب الشافعي قولان ولأصحاب مالك قولان . ومن الناس من ظن أن هذا الخلاف يطرد في التخصيص المتصل كالصفة [ ص: 103 ] والشرط والغاية والبدل وجعل يحكي في ذلك أقوال من يفصل كما يوجد في كلام طائفة من المصنفين في أصول الفقه وهذا مما لم يعرف أن أحدا قاله فجعل اللفظ العام المقيد في الصفات والغايات والشروط مجازا بل لما أطلق بعض المصنفين أن اللفظ العام إذا خص يصير مجازا ; ظن هذا الناقل أنه عنى التخصيص المتصل وأولئك لم يكن في اصطلاحهم عام مخصوص إلا إذا خص بمنفصل . وأما المتصل ; فلا يسمون اللفظ عاما مخصوصا البتة فإنه لم يدل إلا متصلا والاتصال منعه العموم وهذا اصطلاح كثير من الأصوليين وهو الصواب . لا يقال لما قيد بالشرط والصفة ونحوهما : أنه داخل فيما خص من العموم ولا في العام المخصوص ; لكن يقيد فيقال : تخصيص متصل وهذا المقيد لا يدخل في التخصيص المطلق .

                وبالجملة فيقال : إذا كان هذا مجازا ; فيكون تقييد الفعل المطلق بالمفعول به وبظرف الزمان والمكان مجازا : وكذلك بالحال وكذلك كل ما قيد بقيد فيلزم أن يكون الكلام كله مجازا فأين الحقيقة ؟ فإن قيل : يفرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة فما كان مع القرينة المتصلة فهو حقيقة وما كان مع المنفصلة كان مجازا ; قيل : تعني بالمتصل ما كان في اللفظ أو ما كان موجودا حين الخطاب ؟ فإن عنيت الأول ; لزم أن يكون ما علم من حال المتكلم أو المستمع أولا قرينة منفصلة . فما استعمل بلام التعريف لما يعرفانه كما يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المسلمين رسول الله أو قال الصديق وهو عندهم أبو بكر وإذا قال الرجل لصاحبه : اذهب إلى [ ص: 104 ] الأمير أو القاضي أو الوالي يريد ما يعرفانه فإنه يكون مجازا . وكذلك الضمير يعود إلى معلوم غير مذكور . كقوله : { إنا أنزلناه } وقوله : { حتى توارت بالحجاب } وأمثال ذلك أن يكون هذا مجازا ; وهذا لا يقوله أحد . و " أيضا " فإذا قال لشجاع : هذا الأسد فعل اليوم كذا ، ولبليد : هذا الحمار قال اليوم كذا ، أو لعالم أو جواد : هذا البحر جرى منه اليوم كذا ; أن يكون حقيقة لأن قوله هذا قرينة لفظية فلا يبقى قط مجازا . وإن قال : المتصل أعم من ذلك وهو ما كان موجودا حين الخطاب . قيل له : فهذا أشد عليك من الأول ; فإن كل متكلم بالمجاز لا بد أن يقترن به حال الخطاب ما يبين مراده وإلا لم يجز التكلم به . فإن قيل : أنا أجوز تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقت الحاجة . قيل : أكثر الناس لا يجوزون أن يتكلم بلفظ يدل على معنى وهو لا يريد ذلك المعنى إلا إذا بين وإنما يجوزون تأخير بيان ما لم يدل اللفظ عليه كالمجملات . ثم نقول : إذا جوزت تأخير البيان فالبيان قد يحصل بجملة تامة وبأفعال من الرسول وبغير ذلك . ولا يكون البيان المتأخر إلا مستقلا بنفسه لا يكون مما يجب اقترانه بغيره . فإن جعلت هذا مجازا ; لزم أن يكون ما يحتاج في العمل إلى بيان مجازا كقوله : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } . ثم يقال : هب أن هذا جائز عقلا لكن ليس واقعا في الشريعة أصلا وجميع ما يذكر من ذلك باطل ، كما قد بسط في موضعه ، فإن الذين قالوا : [ ص: 105 ] الظاهر الذي لم يرد به ما يدل عليه ظاهره قد يؤخر بيانه ، احتجوا بقوله : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } . وادعوا أنها كانت معينة وأخر بيان التعيين .

                وهذا خلاف ما استفاض عن السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أنهم أمروا ببقرة مطلقة فلو أخذوا بقرة من البقر فذبحوها أجزأ عنهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم . والآية نكرة في سياق الإثبات فهي مطلقة . والقرآن يدل سياقه على أن الله ذمهم على السؤال بما هي ولو كان المأمور به معينا لما كانوا ملومين . ثم إن مثل هذا لم يقع قط في أمر الله ورسوله أن يأمر عباده بشيء معين ويبهمه عليهم مرة بعد مرة ولا يذكره بصفات تختص به ابتداء . واحتجوا بأن الله أخر بيان لفظ الصلاة والزكاة والحج وأن هذه الألفاظ لها معان في اللغة بخلاف الشرع ; وهذا غلط فإن الله إنما أمرهم بالصلاة بعد أن عرفوا المأمور به وكذلك الصيام وكذلك الحج ولم يؤخر الله قط بيان شيء من هذه المأمورات ولبسط هذه المسألة موضع آخر .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية