الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : "وقد احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة :

الأولى : قالوا : لو كان الباري تعالى قابلا لحلول الحوادث بذاته لما خلا عنها أو عن أضدادها ، وضد الحادث حادث ، وما لا يخلو عن الحوادث فيجب أن يكون حادثا ، والرب تعالى ليس بحادث" .

قال : "وهذه الحجة مبنية على خمس مقدمات : الأولى : أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد . والثانية : أن ضد الصفة الحادثة لا بد وأن يكون حادثا .

والثالثة : أن ما قبل حادثا فلا يخلو عنه وعن ضده . والرابعة : أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث . والخامسة : أن الحدوث [ ص: 28 ] على الله تعالى محال . أما أن الرب تعالى ليس بحادث فقد سبق تقريره" .

قلت : هذا معلوم باتفاق أهل الملل وسائر العقلاء ممن أثبت الصانع ، ومعلوم بالأدلة اليقينية ، بل معلوم بالضرورة . وقد ذكر أنه قرر ذلك ، وهو لم يقرره ، فإنه إنما قرره بناء على إثبات واجب الوجود ، وبنى ذلك على نفي التسلسل في العلل وإبطال حوادث لا أول لها ، وحجته على ذلك ضعيفة .

وقد أورد في كتابه المسمى "بدقائق الحقائق" على إبطال تسلسل العلل سؤالا زعم أنه لا يعرف عنه جوابا ، فبطل بقوله ما ذكره من تقريره . لكن هذا بحمد الله أجل من أن يحتاج إلى مثل هذا التقرير .

وقال : "وأما أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، فسيأتي تقريره في حدوث الجواهر" .

قلت : لم يقرر ذلك إلا بدليل حدوث الأعراض . وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها ، وإنما قرر ذلك بإبطال التسلسل في الآثار ، وقرر ذلك بأن الحادث يمتنع أن يكون أزليا .

وقد تقدم فساد ذلك بأن لفظ "الحادث" يراد به النوع الدائم ، ويراد به الحادث المعين ، والمعلوم امتناعه إنما هو النوع الثاني . والنزاع إنما هو في الأول .

[ ص: 29 ] وأيضا فإن الذي قرر به امتناع تسلسل العلل في "دقائق الحقائق" أورد عليه سؤالا ، واعترف بأنه لا جواب له عنه . وإذا كان تقريره لنفي تسلسل العلل قد بين أنه ورد عليه سؤال لا يعرف جوابه ، فكيف بتقرير نفي تسلسل الحوادث !

ومن المعلوم أن العقلاء اتفقوا على نفي تسلسل العلل ، وتنازعوا في نفي تسلسل الحوادث ، فإن كان لم يقم على نفي ذاك عنده دليل عقلي فهذا أولى .

والسؤال الذي أورده يرد على النوعين ، وقد [ذكرناه] وذكرنا الجواب عنه فيما تقدم . ومضمونه أنه : لم لا يجوز أن يكون مجموع المعلولات التي لا تتناهى ، وإن كان ممكنا في نفسه ، لكنه واجب بوجوب آحاده المتعاقبة ، وكل واحد واجب بما قبله . وهذا ، وإن كان باطلا ، لكن المقصود التنبيه على أن من خالف الكتاب والسنة ، وقال : إنه ينصر بالمعقول أصول الدين ، يخل بمثل هذا الواجب في أعظم أصول الدين ، مع أنه يقرر ما لا يحتاج إليه في الدين ، أو ما يعارض ما يثبت أنه من الدين .

وكذلك من قال مثل هذا وأمثاله أنه يتكلم بالعقليات يظهر منه في أعظم المعقولات التقصير والتوقف والحيرة فيها ، ويحقق من المعقولات ما تقل الحاجة إليه ، أو ما يكون وسيلة إلى غيره ، مع أن المقصود بالوسيلة لم يحققه .

[ ص: 30 ] وقد احتج على إبطال حوادث لا أول لها ، بعد أن أبطل حجج موافقيه ، بأن ذلك يستلزم كون الحادث أزليا ، وهذا الوجه ضعيف .

فإن المنازع يقول : أشخاص الحوادث ليست أزلية ، وإنما الأزلي النوع . فالموصوف بأنه أزلي ليس هو الموصوف بأنه حادث ، ثم يقال : إذا لم تقدر أن تقيم حجة على امتناع تسلسل المعلولات وإثبات الصانع عندك موقوف على هذا ، فأي شيء ينفعك : نفي حلول الحوادث عما لم تقم حجة على إثباته فضلا عن قدمه ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية