الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " وإذا أحس الإمام برجل وهو راكع لم ينتظره ، ولتكن صلاته خالصة لله تعالى " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قال المزني : ورأيت في رواية بعضهم عنه أنه قال : لا بأس بانتظاره ، والأول عندي أولى بالصواب : لتقديمها على من قصر في إتيانها ، وهذا كما قال انتظار الإمام في صلاته قوما يدركون الجماعة على ثلاثة أضرب : ضربان يكرهان وضرب مختلف فيه .

                                                                                                                                            فأما الضربان المكروهان :

                                                                                                                                            فأحدهما : أن ينتظر في صلاته اجتماع الناس وتكاثرهم ، فيبطل ركوعه ، وسجوده ، وقراءته ، وتسبيحه ليكثر جمعهم ، ويتلاحق آخرهم بأولهم .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون انتظاره لرجل بعينه يخصه به ، إما إكراما لذي مودة ، أو قرابة ، أو إعظاما لذي رياسة ، أو مهابة ، فهذان الضربان من الانتظار مكروهان لأن فيه إسقاط حق السابق الحاضر بانتظار من ليس بحاضر ، وترك الخشوع بقضاء الحقوق .

                                                                                                                                            وأما الضرب الثالث : فهو مسألة الكتاب .

                                                                                                                                            وصورته : أن يحس الإمام وهو راكع برجل يريد الدخول معه في الصلاة ، وإن لم ينتظره ، ومضى في صلاته ، كان أولى وأفضل .

                                                                                                                                            وإن انتظره ليدرك الركعة معه جاز ، وهل يكره له ويكون مسيئا به أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قوله في القديم : لا يكره له ولا يكون مسيئا بل هو مباح . والقول الثاني قاله في الجديد وهو الصحيح وبه قال أبو حنيفة ، فقد أشرك بين العمل لله سبحانه وتعالى [ ص: 321 ] وبين العمل للمخلوقين ، ولم يرد به الإشراك الذي هو الكفر ، كما وهم بعض أصحابنا وأفتى بشركه ، وإباحة دمه ، فأخرجه عن الملة بوهمه ، ولم يفهم معنى قوله وكيف يكون مشركا بالانتظار وقد استحبه له كثير من الفقهاء ، وكان أصحابنا البصريون يخرجون القولين في الاستحباب وليس بصحيح : وإنما القولان في الكراهة ، فإذا قيل بقوله في القديم : فوجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ، وأجلس الحسن عند قدميه ، فلما سجد ركب الحسن على ظهره ، فأطال السجود ، فلما فرغ قيل له : أطلت السجود . فقال صلى الله عليه وسلم : " إن ابني ركبني ، فأطلت السجود ليقضي وطره فلما استجاز بطويله ليقضي الحسن عليه السلام وطره جاز انتظار الداخل ليدرك فضيلة الجماعة ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بـ " ذات الرقاع " ، وانتظر الطائفة الأولى قائما في الركعة الثانية من صلاته ليتم صلاتها ، ثم انتظر الطائفة الثانية جالسا في الركعة الثانية ، ليتم صلاتها ، ثم يسلم بها ، فلما انتظر الطائفتين في موضعين دل على جواز الانتظار لإدراك فضل الجماعة ، وأنه غير مكروه .

                                                                                                                                            وإذا قيل بقوله في الجديد فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم : من أم قوما فليخفف ، فإن فيهم السقيم والضعيف ، وذا الحاجة وفي انتظاره تطويل على من خلفه ، وتثقيل ، ولأنه يسقط خشوعه بانتظاره ، وتوقع مجيئه ، وإتيان ما يسقط الخشوع مكروه : ولأن انتظاره ليدرك الصلاة معه يدعوه إلى ترك المبادرة والتواني عن الإسراع إلى الجماعة ، وإذا لم ينتظره تخوف فوت الجماعة ، فارتدع عن الإبطاء ، والزجر عن التواني ، فكانت المصلحة فيه أتم ، ولأنه لو أقيمت الصلاة لم يحل للإمام انتظار من لم يحضر ، لا يختلف فيه المذهب فلأن لا يجوز الانتظار في وسط الصلاة أولى :

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية