الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الحسين فهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة ، وهما ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا، كما ثبت ذلك في الصحيح . وثبت في الصحيح أنه أدار كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين، وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا". وإن كان الحسن الأكبر هو الأفضل، لكونه كان أعظم حلما وأرغب في الإصلاح بين المسلمين وحقن دماء المسلمين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي بكرة قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر [ ص: 259 ] والحسن بن علي إلى جانبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ". وفي صحيح البخاري عن أسامة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ويقول: "اللهم إني أحبهما، فأحبهما، وأحب من يحبهما". وكانا من أكره الناس للدخول في اقتتال الأمة.

والحسين- رضي الله عنه- قتل مظلوما شهيدا، وقتلته ظالمون متعدون، وإن كان بعض الناس يقول: إنه قتل بحق، ويحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف، كائنا من كان ". رواه مسلم . فزعم هؤلاء أن الحسين أتى الأمة وهم مجتمعون، فأراد أن يفرق الأمة، فوجب قتله. وهذا بخلاف من يتخلف عن بيعة الإمام ولم يخرج عليه، فإنه لا يجب قتله، كما لم يقتل الصحابة سعد بن عبادة مع تخلفه عن بيعة أبي بكر وعمر.

وهذا كذب وجهل، فإن الحسين رضي الله عنه لم يقتل حتى أقام الحجة على من قتله، وطلب أن يذهب إلى يزيد أو يرجع إلى المدينة أو يذهب إلى الثغر. وهذا لو طلبه آحاد الناس لوجب إجابته، فكيف لا يجب إجابة الحسين رضي الله عنه إلى ذلك وهو يطلب الكف والإمساك؟ [ ص: 260 ] وأما أصل مجيئه فإنما كان لأن قوما من أهل العراق من الشيعة كتبوا إليه كتبا كثيرة يشتكون فيها من تغير الشريعة وظهور الظلم، وطلبوا منه أن يقدم ليبايعوه ويعاونوه على إقامة الشرع والعدل، وأشار عليه أهل الدين والعلم- كابن عباس وابن عمر وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- بأن لا يذهب إليهم، وذكروا له أن هؤلاء يغزونه، وأنهم لا يوفون بقولهم، ولا يقدر على مطلوبه، وأن أباه كان أعظم حرمة منه وأتباعا ولم يتمكن من مراده. فظن الحسين أنه يبلغ مراده، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل، فأووه أولا ثم قتلوه ثانيا، فلما بلغ الحسين ذلك طلب الرجوع، فأدركته السرية الظالمة، فلم تمكنه من طاعة الله ورسوله، لا من ذهابه إلى يزيد، ولا من رجوعه إلى بلده ولا إلى الثغر. وكان يزيد لو يجتمع بالحسين من أحرص الناس على إكرامه وتعظيمه ورعاية حقه، ولم يكن في المسلمين عنده أجل من الحسين، فلما قتله أولئك الظلمة حملوا رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد، فنكت بالقضيب على ثناياه، وكان في المجلس أنس بن مالك فقال: إنك تنكت بالقضيب حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل. هكذا ثبت في الصحيح ، وفي المسند أن أبا برزة الأسلمي كان أيضا شاهدا. فهذا كان بالعراق عند ابن زياد.

وأما حمل الرأس إلى الشام أو غيرها والطواف به فهو كذب، والروايات التي تروى أنه حمل إلى قدام يزيد ونكت بالقضيب [ ص: 261 ] روايات ضعيفة لا يثبت شيء منها، بل الثابت أنه لما حمل علي بن الحسين وأهل بيته إلى يزيد وقع البكاء في بيت يزيد، لأجل القرابة التي كانت بينهم، لأجل المصيبة. وروي أن يزيد قال: لعن الله ابن مرجانة- يعني ابن زياد-، لو كان بينه وبين الحسين قرابة لما قتله. وقال: قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين. وأنه خير علي بن الحسين بين مقامه عنده وبين الرجوع إلى المدينة، فاختار الرجوع، فجهزه أحسن جهاز.

ويزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولكن أمر بدفعه عن منازعته في الملك، ولكن لم يقتل قتلة الحسين ولم ينتقم منهم، فهذا مما أنكر على يزيد، كما أنكر عليه ما فعل بأهل الحرة لما نكثوا بيعته، فإنه أمر بعد القدرة عليهم بإباحة المدينة ثلاثا. ولهذا قيل لأحمد بن حنبل: أيؤخذ الحديث عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامة، أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟ وقيل له: إن قوما يقولون: إنا نحب يزيد، فقال: وهل يحب يزيد من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقيل له: أولا تلعنه؟ فقال: متى رأيت أباك يلعن أحدا؟

ومع هذا فيزيد أحد ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات كما لغيره من الملوك، وقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له ". وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد، غزاها في خلافة أبيه معاوية، ومعه أبو [ ص: 262 ] أيوب الأنصاري ومات ودفن هناك.

ويزيد هذا ليس هو من الصحابة، بل ولد في خلافة عثمان، وأما عمه يزيد بن أبي سفيان فهو من الصحابة، وهو رجل صالح، أمره أبو بكر في فتوح الشام ومشى في ركابه، ووصاه بوصايا معروفة عند الفقهاء يعملون بها، ولما مات في خلافة عمر ولى عمر أخاه معاوية مكانه، ثم ولي عثمان فأقره وولاه إلى أن قتل عثمان، وولد له يزيد ابنه في خلافة عثمان.

التالي السابق


الخدمات العلمية