الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .

[ ص: 292 ] جملة لعن مستأنفة استئنافا ابتدائيا فيها تخلص بديع لتخصيص اليهود بالإنحاء عليهم دون النصارى . وهي خبرية مناسبة لجملة قد ضلوا من قبل ، تتنزل منها منزلة الدليل ، لأن فيها استدلالا على اليهود بما في كتبهم وبما في كتب النصارى . والمقصود إثبات أن الضلال مستمر فيهم فإن ما بين داود وعيسى أكثر من ألف سنة .

و ( على ) في قوله على لسان داود للاستعلاء المجازي المستعمل في تمكن الملابسة ، فهي استعارة تبعية لمعنى باء الملابسة مثل قوله تعالى أولئك على هدى من ربهم ، قصد منها المبالغة في الملابسة ، أي لعنوا بلسان داود ، أي بكلامه الملابس للسانه . وقد ورد في سفر الملوك وفي سفر المزامير أن داود لعن الذين يبدلون الدين ، وجاء في المزمور الثالث والخمسين " الله من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله كلهم قد ارتدوا معا فسدوا " ، ثم قال " أخزيتهم لأن الله قد رفضهم ليت من صهيون خلاص إسرائيل " . وفي المزمور 109 " قد انفتح علي فم الشرير وتكلموا معي بلسان كذب أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب " ، ثم قال " ينظرون إلي وينغضون رءوسهم " . ثم قال " أما هم فيلعنون وأما أنت فتبارك ، قاموا وخزوا أما عبدك فيفرح " ذلك أن بني إسرائيل كانوا قد ثاروا على داود مع ابنه ابشلوم . وكذلك لعنهم على لسان عيسى متكرر في الأناجيل .

وذلك إشارة إلى اللعن المأخوذ من لعن أو إلى الكلام السابق بتأويل المذكور .

والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا; كأن سائلا يسأل عن موجب هذا اللعن فأجيب بأنه بسبب عصيانهم وعدوانهم ، أي لم يكن بلا سبب . وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السببية ومع وقوعه في جواب سؤال مقدر أفاد مجموع ذلك مفاد القصر ، أي ليس لعنهم إلا بسبب عصيانهم كما أشار إليه في الكشاف وليس في الكلام صيغة قصر ، فالحصر مأخوذ من مجموع الأمور الثلاثة . وهذه النكتة من غرر صاحب الكشاف . والمقصود من الحصر أن لا يضل الناس في تعليل سبب اللعن فربما أسندوه إلى سبب غير ذلك على عادة الضلال في العناية بالسفاسف [ ص: 293 ] والتفريط في المهمات ، لأن التفطن لأسباب العقوبة أول درجات التوفيق . ومثل ذلك مثل البله من الناس تصيبهم الأمراض المعضلة فيحسبونها من مس الجن أو من عين أصابتهم ويعرضون عن العلل والأسباب فلا يعالجونها بدوائها .

و ( ما ) في قوله بما عصوا مصدرية ، أي بعصيانهم وكونهم معتدين ، فعدل عن التعبير بالمصدرين إلى التعبير بالفعلين مع ( ما ) المصدرية ليفيد الفعلان معنى تجدد العصيان واستمرار الاعتداء منهم ، ولتفيد صيغة المضي أن ذلك أمر قديم فيهم ، وصيغة المضارع أنه متكرر الحدوث . فالعصيان هو مخالفة أوامر الله تعالى . والاعتداء هو إضرار الأنبياء . وإنما عبر في جانب العصيان بالماضي لأنه تقرر فلم يقبل الزيادة ، وعبر في جانب الاعتداء بالمضارع لأنه مستمر ، فإنهم اعتدوا على محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والمنافقة ومحاولة الفتك والكيد .

وجملة كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن قوله ذلك بما عصوا ، وهو أن يقال كيف تكون أمة كلها متمالئة على العصيان والاعتداء ، فقال كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أو النفر القليل ، فإذا لم يجدوا من يغير عليهم تزايدوا فيها ففشت واتبع فيها الدهماء بعضهم بعضا حتى تعم وينسى كونها مناكر فلا يهتدي الناس إلى الإقلاع عنها والتوبة منها فتصيبهم لعنة الله . وقد روى الترمذي وأبو داود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرجل من بني إسرائيل يلقى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وخليطه وشريكه ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ثم قرأ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل إلى قوله فاسقون ثم قال : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم .

[ ص: 294 ] وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضا باعتبار مجموع الأمة وأن ناهي فاعل المنكر منهم هو بصدد أن ينهاه المنهي عندما يرتكب هو منكرا فيحصل بذلك التناهي ، فالمفاعلة مقدرة وليست حقيقية ، والقرينة عموم الضمير في قوله فعلوه ، فإن المنكر إنما يفعله بعضهم ويسكت عليه البعض الآخر ، وربما فعل البعض الآخر منكرا آخر وسكت عليه البعض الذي كان فعل منكرا قبله وهكذا ، فهم يصانعون أنفسهم .

والمراد بما يفعلون تركهم التناهي .

وأطلق على ترك التناهي لفظ الفعل في قوله لبئس ما كانوا يفعلون مع أنه ترك ، لأن السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرضا به والمشاركة فيه .

وفي هذا دليل للقائلين من أئمة الكلام من الأشاعرة بأنه لا تكليف إلا بفعل ، وأن المكلف به في النهي فعل ، وهو الانتهاء ، أي الكف ، والكف فعل ، وقد سمى الله الترك هنا فعلا . وقد أكد فعل الذم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية