الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم النحو ، واللغة ، والشعر ، وغريب اللغة ، واغتروا به وزعموا أنهم قد غفر لهم وأنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين بالكتاب والسنة ، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو وفي صناعة الشعر وفي غريب اللغة ومثالهم كمن يفني جميع العمر في تعلم الخط وتصحيح الحروف وتحسينها ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة ، فلا بد من تعلمها وتصحيحها ولو عقل لعلم أنه يكفيه أن يتعلم أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ كيفما كان ، والباقي زيادة على الكفاية وكذلك الأديب لو عقل لعرف أن لغة العرب كلغة الترك ، والمضيع عمره في معرفة لغة العرب كالمضيع له في معرفة لغة الترك والهند وإنما فارقتها لغة العرب لأجل ورود الشريعة بها ، فيكفي من اللغة علم الغريبين في الأحاديث والكتاب ، ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه ثم لو اقتصر عليه ، وأعرض عن معرفة معاني الشريعة والعمل بها فهذا أيضا مغرور ، بل مثاله مثاله مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن ، واقتصر عليه وهو غرور ، إذ المقصود من الحروف المعاني وإنما الحروف ظروف وأدوات ، ومن احتاج إلى أن يشرب السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه السكنجبين فهو من الجهال المغرورين فذلك غرور أهل النحو واللغة والأدب والقراءات والتدقيق في مخارج الحروف ، مهما تعمقوا فيها ، وتجردوا لها ، وعرجوا عليها أكثر مما يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين فاللب الأقصى هو العمل ، والذي فوقه هو معرفة العمل ، وهو كالقشر للعمل ، وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه هو سماع ، الألفاظ وحفظها بطريق الرواية ، وهو قشر بطريق الإضافة إلى المعرفة ، ولب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه ، هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك ، وهو القشر الأعلى العلم بمخارج الحروف ، والقانعون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلا من اتخذ هذه الدرجات منازل فلم يعرج عليها إلا بقدر حاجته فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل فطالب ، بحقيقة العمل قلبه وجوارحه ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها عن الشوائب والآفات .

فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع ، وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه ، وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب سواء كان في المنزل القريب ، أو في المنزل البعيد .

وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها .

فأما علم الطب والحساب والصناعات وما يعلم أنه ليس من علوم الشرع فلا يعتقد أصحابها أنهم ينالون المغفرة بها من حيث إنها علوم ، فكان الغرور بها أقل من الغرور بعلوم الشرع ; لأن العلوم الشرعية مشتركة في أنها محمودة كما يشارك القشر اللب في كونه محمودا ، ولكن المحمود منه لعينه هو المنتهى .

، والثاني محمود للوصول به إلى المقصود الأقصى ، فمن اتخذ القشر مقصودا ، وعرج عليه فقد اغتر به .

التالي السابق


(وفرقة اشتغلوا بعلم النحو، واللغة، والشعر، وغريب اللغة، واغتروا وزعموا أنهم قد غفر لهم) بسبب اشتغالهم بتلك العلوم (وأنهم من علماء الأمة) ، وأحبارها; (إذ قوام الدين بالكتاب والسنة، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو ) فمن لم يعرف فيهما لم يعرف الكتاب والسنة (فأفنى هؤلاء أعمارهم) النفيسة (في) معرفة (دقائق النحو) ، وغرائبه (وفي) معرفة (صناعة الشعر وفي) معرفة (غرائب اللغة) ، وسبب إفناء الأعمار فيها أن تلك العلوم لا تستقل بأنفسها في معرفتها، بل لا بد معها من علوم أخر هي متوقفة عليها; فعلم النحو يستدعي علم التصريف وعلم جواهر الحروف وعلم الاشتقاق وعلم الخط وغيرها، وكذا علم اللغة يتوقف عليها، وعلم صناعة الشعر يزيد عليهما بمعرفة علم العروض وعلم القوافي وعلم العلل والزحاف، وفي كل من ذلك تصانيف مستقلة فلا يكاد المشتغل ببعضها أن يفرغ إلى غيره فيفنى العمر وهو لم يكمل في تلك العلوم .

(ومثالهم كمن يفني جميع العمر في تعلم الخط) العربي (وتصحيح الحروف وتحسينها) وتحصيلها بأوزانها المذكورة عند أصحاب الفن، (ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة، فلا بد من تعلمها وتصحيحها) فأفنوا أعمارهم على تحصيل ذلك، وتركوا الاشتغال بالمهم من الدين، وساعدهم مع ذلك رغبة أهل الدنيا إليهم، فراجت صنعتهم، (ولو عقل) المشتغل بعلم الكتابة (لعلم أنه يكفيه أن يتعلم أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ) ، ويوصل إلى المراد (كيفما كان، والباقي زيادة على) قدر (الكفاية) ، ولذلك قالوا: خير العلم ما دري، وخير الخط ما قري .

(وكذلك الأديب لو عقل لعرف أن لغة العرب كلغة الترك، والمضيع عمره في معرفة لغة العرب كالمضيع عمره في معرفة لغة الترك والهند) وغيرهما، (وإنما فارقتها لغة العرب لأجل ورود الشريعة بها، فيكفي من اللغة علم الغربيين في الحديث والكتاب، ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب) من غير تعمق في كل منهما، (فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه) ، والمضيع عمره فيه مضيع في فضول، (ثم لو اقتصر عليه، وأعرض عن معرفة معاني الشريعة) ، وفي نسخة: المعاني الشرعية، (والعمل بها) أي: بمقتضاها (فهو أيضا مغرور، بل مثاله مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن، واقتصر عليه وهو غرور، إذ المقصد من الحروف المعاني) المفهومة [ ص: 470 ] منها، (وإنما الحروف ظروف وأدوات، ومن احتاج إلى أن يشرب السكنجبين) ، وهو الدواء المركب من الخل والعسل (ليزول ما به من الصفراء) العارضة على الطبيعة (فضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه السكنجبين فهو من الجهال المغرورين) فإن القدح إنما هو ظرف للشرب، وليس هو المقصود بالذات، (وكذلك غرور أهل النحو واللغة والأدب) والشعر) (والقراءة والتدقيق في مخارج الحروف، مهما تعمقوا فيها، وتجردوا لها، وعرجوا إليها أكثر مما يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين) في حقه (فاللب الأقصى هو العمل، والذي فوقه هو معرفة العمل، وهو كالقشر للعمل، وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه، وسماع الألفاظ وحفظها بطريق الرواية، وهو قشر بالإضافة إلى المعرفة، ولب بالإضافة إلى فوقه وما فوقه، هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك، وهو القشر الأعلى العلم بمخارج الحروف، والقانعون بهذه الدرجات) ما عدا اللب الأقصى (كلهم مغرورون إلا من اتخذ هذه الدرجات منازل) يرحل منها (فلم يعرج عليها إلا بقدر حاجته) الضرورية، (فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل، وطالب بحقيقة العمل قلبه وجوارحه وزجا) أي: ساق (عمره في حمل النفس على تصحيح الأعمال وتصفيتها عن الشوائب والآفات) العارضة لها ، (فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع، وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له) ، وهو اللب (ومنازل بالإضافة إليه، وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب) في سعيه، (سواء كان في المنزل القريب، أو في المنزل البعيد، وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع) إذ يكون الوصول إليها بها (اغتر بها أربابها، فأما علم الطب والحساب والصناعات وما يعلم أنه ليس من علوم الشرع فلا يعتقد أصحابها) المشتغلون بها (أنهم ينالون المغفرة) والنجاة (بها من حيث إنها علوم، فكان الغرور فيها أقل من الغرور بعلوم الشرع; لأن العلوم الشرعية مشتركة في أنها محمودة كما يشارك اللب القشر في كونه محمودا، ولكن المحمود منه لعينه هو المنتهي، والثاني محمود) لا لذاته، بل (للوصول به إلى المقصود الأقصى، فمن اتخذ القشر مقصودا، وعرج عليه فقد اغتر به) ، والله الموفق .




الخدمات العلمية