الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الواحد : هو الذي لا يتبعض ، والذي لا يضم إليه ثان . يقال : وحد يحد وحدا وحدة : إذا انفرد . الدعاء : التصويت باسم المدعو على سبيل النداء ، والفعل منه دعا يدعو دعاء . الإنبات : الهمزة فيه للنقل ، وهو : الإخراج لما شأنه النمو . البقل : جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والبهائم ، يقال منه بقلت الأرض وأبقلت : أي صارت ذات بقل ، ومنه : الباقلاء ، قاله ابن دريد . القثاء : اسم جنس واحده قثاءة ، بضم القاف وكسرها ، وهو هذا المعروف . وقال الخليل : هو الخيار ، ويقال : أرض مقثأة : أي كثيرة القثاء . الفوم ، قال الكسائي والفراء والنضر بن شميل وغيرهم : هو الثوم ، أبدلت الثاء فاء ، كما قالوا في مغفور : مغثور ، وفي جدث : جدف ، وفي عاثور : عافور . قال الصلت :


كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها القراديس والفومان والبصل



وأنشد مؤرج لحسان :


وأنتم أناس لئام الأصول     طعامكم الفوم والحوقل



يعني الفوم والبصل ، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء ، قالوا في الأثافي : الأثاثي ، وكلا البدلين لا ينقاس ، أعني إبدال الثاء فاء والفاء ثاء . وقال أبو مالك وجماعة : الفوم : الحنطة ، ومنه قول أحيحة بن الجلاح :


قد كنت أحسبني كأغنى واحد     قدم المدينة عن زراعة فوم



قيل : وهي لغة مصر ، وهو اختيار المبرد . وقال الفراء : وهي لغة قديمة . وقال ابن قتيبة والزجاج : هي الحبوب التي تؤكل . وقال أبو عبيدة وابن دريد : هي السنبلة ، زاد أبو عبيدة : بلغة أسد . وقيل : الحبوب التي تخبز . وقيل : الخبز ، تقول العرب : فوموا لنا ، أي اخبزوا ، واختاره ابن قتيبة قال :


تلتقم الفالح لم يفوم     تقمما زاد على التقمم



وقال قطرب : الفوم : كل عقدة في البصل ، وكل قطعة عظيمة في اللحم ، وكل لقمة كبيرة . وقيل : إنه الحمص ، وهي لغة شامية ، ويقال لبائعه : فامي ، مغير عن فومي للنسب ، كما قالوا : شهلي ودهري . العدس : معروف ، وعدس وعدس من الأسماء الأعلام ، وعدس : زجر للبغل . البصل : معروف . أدنى : أفعل التفضيل من الدنو ، وهو القرب ، يقال منه : دنا يدنو دنوا . وقال علي بن سليمان الأخفش : هو أفعل من الدناءة ، وهي الخسة والرداءة ، خففت الهمزة بإبدالها ألفا . وقال أبو زيد في المهموز : دنؤ الرجل ، يدنأ دناءة ودناء ، ودنأ يدنأ . وقال غيره : هو أفعل من الدون ، أي أحط في المنزلة ، وأصله أدون ، فصار وزنه : أفلع ، نحو : أولى [ ص: 220 ] لك ، هو أفعل من الويل ، أصله أويل فقلب .

المصر : البلد ، مشتق من مصرت الشاة ، أمصرها مصرا : حلبت كل شيء في ضرعها ، وقيل المصر : الحد بين الأرضين ، وهجر يكتبون : اشترى الدار بمصورها : أي بحدودها . وقال عدي بن زيد :


وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به     بين النهار وبين الليل قد فصلا



السؤال : الطلب ، ويقال : سأل يسأل سؤالا ، والسؤل : المطلوب ، وسال يسال : على وزن خاف يخاف ، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب ، سلهم أيهم بذلك زعيم . قالوا : لأن السؤال سبب إلى العلم فأجري مجرى العلم . الذلة : مصدر ذل يذل ذلة وذلا ، وقيل : الذلة كأنها هيئة من الذل ، كالجلسة ، والذل : الخضوع وذهاب الصعوبة . المسكنة : مفعلة من السكون ، ومنه سمي المسكين لقلة حركاته وفتور نشاطه ، وقد بني من لفظه فعل ، قالوا : تمسكن ، كما قالوا : تمدرع من المدرعة ، وقد طعن على هذا النقل وقيل : لا يصح وإنما الذي صح تسكن وتدرع .

باء بكذا : أي رجع ، قاله الكسائي . أو اعترف ، قاله أبو عبيدة ، واستحق ، قاله أبو روق ; أو نزل وتمكن ، قاله المبرد ; أو تساوى ، قاله الزجاج ، وأنشدوا لكل قول ما يستدل به من كلام العرب ، وحذفنا نحن ذلك . النبيء : مهموز من أنبأ ، فعيل بمعنى مفعل ، كسميع من أسمع ، وجمع على النبآء ، ومصدره النبوءة ، وتنبأ مسيلمة ، كل ذلك دليل على أن اللام همزة . وحكى الزهراوي أنه يقال : نبؤ ، إذا ظهر فهو نبيء ، وبذلك سمي الطريق الظاهر : نبيئا . فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل ، كشريف من شرف ، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز ، ثم سهل . وقيل : مشتق من نبا ينبو : إذا ظهر وارتفع ، قالوا : والنبي : الطريق الظاهر ، قال الشاعر :


لما وردن نبيا واستتب بنا     مسحنفر لخطوط المسح منسحل



قال الكسائي : النبي : الطريق ، سمي به ; لأنه يهتدى به ، قالوا : وبه سمي الرسول ; لأنه طريق إلى الله تعالى .

العصيان : عدم الانقياد للأمر والنهي . والفعل منه : عصى يعصي ، وقد جاء العصي في معنى العصيان . أنشد ابن حماد في تعليقه عن أبي الحسن بن الباذش مما أنشده الفراء :


في طاعة الرب وعصي الشيطان



الاعتداء : افتعال من العدو ، وقد مر شرحه عند قوله : ( بعضكم لبعض عدو ) .

( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) . القائل : هو الله تعالى ، وهل ذلك على لسان موسى أو يوشع - عليهما السلام - قولان . وانتصاب ( هذه ) على ظرف المكان ; لأنه إشارة إلى ظرف المكان ، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر ، وعلى ظرف الزمان إذا كن إشارة إليهما تقول : ضربت هذا الضرب ، وصمت هذا اليوم . هذا مذهب سيبويه في دخل ، أنها تتعدى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة ( في ) فإن كان الظرف مجازيا تعدت بفي ، نحو : دخلت في غمار الناس ، ودخلت في الأمر المشكل . ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل : دخلت البيت ، مفعول به لا ظرف مكان ، وهي مسألة تذكر في علم النحو . والألف واللام في ( القرية ) للحضور ، وانتصاب ( القرية ) على النعت ، أو على عطف البيان ، كما مر في إعراب ( الشجرة ) من قوله : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) ، وإن اختلفت جهتا الإعراب في ( هذه ) فهي في : ( ولا تقربا هذه ) مفعول به ، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه .

والقرية هنا بيت المقدس في قول الجمهور ، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي والربيع وغيرهم . وقيل : أريحا ، قاله ابن عباس أيضا ، وهي بأرض المقدس . قال أبو زيد عمر بن شبة النمري : كانت قاعدة ومسكن ملوك ، وفيها مسجد هو بيت المقدس ، وفي المسجد بيت يسمى إيليا . وقال الكواشي : أريحا قرية الجبارين ، كانوا من بقايا عاد ، يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق ، وقيل : الرملة ، قاله الضحاك ; وقيل : أيلة ، وقيل : الأردن ; وقيل : فلسطين ; وقيل : [ ص: 221 ] البلقاء ; وقيل : تدمر ، وقيل : مصر ; وقيل : قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها ; وقيل : الشام . روي ذلك عن ابن كيسان ، وقد رجح القول الأول لقوله في المائدة : ( ادخلوا الأرض المقدسة ) . قيل : ولا خلاف ، أن المراد في الآيتين واحد . ورد هذا القول بقوله : ( فبدل ) لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى ، لكنه مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس . وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان على لسان موسى ، وهذا الجواب وهم ; لأنه قد تقدم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله : ( ادخلوا الأرض المقدسة ) واحد ، والقائل ذلك في آية المائدة قطعا . ألا ترى إلى قوله : ( ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة ) ، وقولهم : ( قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ) ؟ قال وهب : كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، فقيل لهم : ( ادخلوا ) الآية . وقال غيره : ملوا المن والسلوى ، فقيل لهم : ( اهبطوا مصرا ) ، وكان أول ما لقوا أريحا . وفي قوله : ( هذه القرية ) دليل على أنهم قاربوها وعاينوها ; لأن ( هذه ) إشارة لحاضر قريب . قيل : والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون ، فإنه نقل عنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين ، ولم يكن موسى معهم حين دخلوها ، فإنه مات هو وأخوه في التيه . وقيل : لم يدخلا التيه لأنه عذاب ، والله لا يعذب أنبياءه .

( فكلوا منها حيث شئتم رغدا ) : تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله : ( وكلا منها رغدا حيث شئتما ) إلا أن هناك العطف بالواو وهنا بالفاء ، وهناك تقديم الرغد على الظرف ، وهنا تقديم الظرف على الرغد ، والمعنى فيهما واحد ، إلا أن الواو هناك جاءت بمعنى الفاء ، قيل : وهو المعنى الكثير فيها ، أعني أنه يكون المتقدم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخر في الزمان ، وإن كانت قد ترد بالعكس ، وهو قليل ، وللمعية والزمان ، وهو دون الأول ، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاء في الأعراف من قوله : ( فكلا ) بالفاء ، والقضية واحدة . وأما تقديم الرغد هناك فظاهر ، فإنه من صفات الأكل أو الآكل ، فناسب أن يكون قريبا من العامل فيه ولا يؤخر عنه ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلا مؤثرا المنع ; لاجتماعهما في المعمولية لعامل واحد ، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاصلة بعده ، ألا ترى أن قوله : ( فكلوا منها حيث شئتم رغدا ) وقوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) ، فهما سجعتان متناسبتان ؟ فلهذا ، والله أعلم ، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين .

( وادخلوا الباب ) : الخلاف في نصب ( الباب ) كالخلاف في نصب ( القرية ) والباب أحد أبواب بيت المقدس ، ويدعى الآن : باب حطة ، قاله ابن عباس ; أو الثامن من أبواب بيت المقدس ، ويدعى باب التوبة ، قاله مجاهد والسدي ; أو باب القرية التي أمروا بدخولها ، أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان ، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى . ( سجدا ) نصب على الحال من الضمير في ( ادخلوا ) قال ابن عباس : معناه ركعا ، وعبر عن الركوع بالسجود ، كما يعبر عن السجود بالركوع ، قيل : لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء ، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيقا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعا ، فلا يحتاج فيه إلى الأمر ، وهذا لا يلزم ; لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنى أنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال ، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب . وقيل : معناه خضعا متواضعين ، واختاره أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب ، ونذكر وجه اختياره لذلك . وقيل : معناه السجود المعروف من وضع الجبهة على الأرض ، والمعنى : ادخلوا ساجدين شكرا لله تعالى ، إذ ردكم إليها . وهذا هو ظاهر اللفظ . قال أبو عبد الله بن أبي الفضل : وهذا بعيد ; لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود ، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك ، فلما تعذر على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع ; لأنهم إذا أخذوا [ ص: 222 ] في التوبة ; فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاشعا مستكينا ، وما ذهب إليه لا يلزم ; لأن أخذ الحال مقارنة ، فتعذر ذلك عنده ، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروا بالدخول وهم ساجدون ، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون . وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا . وأما إذا جعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك ; لأن السجود إذ ذاك يكون متراخيا عن الدخول ، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب . من ذلك ما في كتاب سيبويه مررت برجل معه صقر صائدا به غدا . وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيرا ، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة ، كان أولى . وقال الزمخشري : أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب ، شكرا لله وتواضعا ، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب ، بل أمروا بالدخول في حال السجود . فالسجود ليس مأمورا به ، بل هو قيد في وقوع المأمور به ، وهو الدخول ، والأحوال نسب تقييدية ، والأوامر نسب إسنادية ، فتناقضتا ، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييديا إسناديا ; لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلاما ومن حيث الإسناد يكتفي ؛ فظهر التناقض . وفي كيفية دخولهم الباب أقوال ، قال ابن عباس وعكرمة : دخلوا من قبل أستاههم ، وقال ابن مسعود : دخلوا مقنعي رءوسهم ، وقال مجاهد : دخلوا على حروف أعينهم ، وقال مقاتل : دخلوا مستلقين ، وقيل : دخلوا منزحفين على ركبهم عنادا وكبرا ، والذي ثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم . فاضمحلت هذه التفاسير ، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

وقوله : ( وقولوا حطة ) ، حطة : مفر ، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة ، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة ، فقدر مسألتنا حطة . هذا تقدير الحسن بن أبي الحسن . وقال الطبري : التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة ، وقال غيرهما : التقدير أمرك حطة . وقيل : التقدير أمرنا حطة ، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيه . قال الزمخشري : والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله :


صبر جميل فكلانا مبتلى



والأصل صبرا . انتهى كلامه ، وهو حسن . ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة : ( حطة ) بالنصب ، كما روي :


صبرا جميلا فكلانا مبتلى



بالنصب . والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول ; لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر ، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر :


إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة     معتقة مما تجيء به التجر



روي برفع ( طعم ) على تقدير : هذا طعم مدامة ، وبالنصب على تقدير : ذقت طعم مدامة . قال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن ينصب ( حطة ) في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة ؟ قلت : لا يبعد . انتهى . وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات ، إنما يدخل على الجمل للحكاية ، فيكون في موضع المفعول به ، إلا إن كان المفرد مصدرا نحو : قلت قولا ، أو صفة لمصدر نحو : قلت حقا ، أو معبرا به عن جملة نحو : قلت شعرا وقلت خطبة ، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر ; لأن الشعر والخطبة نوعان من القول ، فصار كالقهقرى من الرجوع ، وحطة ليس واحدا من هذه . ولأنك إذا جعلت ( حطة ) منصوبة بلفظ ( قولوا ) كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي ، والأصل هو الإسناد المعنوي . وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلا إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى . ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام . أما ما ذهب [ ص: 223 ] إليه أبو عبيدة من أن قوله : ( حطة ) مفرد ، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعا من جملة ، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة - فبعيد عن الصواب لأنه يبقي ( حطة ) مرفوعا بغير رافع ، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات ، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى : ( يقال له إبراهيم ) إلى تأويل ، وأما تشبيهه إياه بقوله :


سمعت الناس ينتجعون غيثا     وجدنا في كتاب بني تميم
أحق الخيل بالركض المعار



فليس بسديد ; لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل ; لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفردا وقد يكون جملة . وأما القول فلا يقع إلا على الجمل ، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره ، وليس ( حطة ) منها . واختلفت أقوال المفسرين في حطة ، فقال الحسن : معناه حط عنا ذنوبنا ، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب : أمروا أن يستغفروا ، وقال عكرمة : معناها لا إله إلا الله ، وقال الضحاك : معناه وقولوا هذا الأمر الحق ، وقيل : معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك ، كما يقال قد حططت في فنائك رحلي . وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل ( حطة ) وهي أقاويل لأهل التفسير . وقد روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها ، قيل : والأقرب خلافه ; لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها ، ولأن الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم والخضوع ، حتى لو قالوا : اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك ، لكان الخضوع حاصلا ; لأن المقصود من التوبة أما بالقلب فبالندم وأما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب ، وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها .

( يغفر ) ، نافع : بالياء مضمومة ، ابن عامر . بالتاء ، أبو بكر من طريق الجعفي ( يغفر ) الباقون : نغفر . فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث ، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من باب الالتفات ; لأن صدر الآية ( وإذ قلنا ) ثم قال : ( يغفر ) ، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد ، ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على القول الدال عليه ( وقولوا ) ، أي نغفر القول ، ونسب الغفران إليه مجازا لما كان سببا للغفران ، ومن قرأ بالنون ، وهي قراءة باقي السبعة ، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله : ( وإذ قلنا ) ، وما بعده من قوله : ( وسنزيد ) ، فالكلام به في أسلوب واحد ، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ ( خطاياكم ) ، وأمالها الكسائي . وقرأت طائفة : ( تغفر ) بفتح التاء ، قيل : كأن الحطة تكون سبب الغفران ، يعني قائل هذا وهو ابن عطية ، فيكون الضمير للحطة . وهذا ليس بجيد ; لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سببا للغفران . وقد بينا ذلك قبل ، فالضمير عائد على المقالة المفهومة من : ( وقولوا ) ، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز ، إذ كانت سببا للغفران . وقرأ الجحدري وقتادة : تغفر بضم التاء وإفراد الخطيئة . وروي عن قتادة : يغفر بالياء مضمومة . وقرأ الأعمش : يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة . وقرأ الحسن : يغفر بالياء مفتوحة والجمع المسلم . وقرأ أبو حيوة : تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم . وحكى الأهوازي أنه قرأ : خطأياكم بهمز الألف وسكون الألف الأخيرة . وحكي عنه أيضا العكس . وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوح والفتحة تنشأ عنها الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال ، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه في قوله :


وخندف هامة هذا العألم



فلأن يهمزوا هذا أولى ، وهذا توجيه شذوذ . ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان : خطاياكم ، أو خطياتكم ، أو خطيتكم مفعولا لم يسم فاعله ، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون ، كان ذلك مفعولا ، وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر . وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى : ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) وذكرنا الخلاف في ذلك . وهنا تقدمت أوامر أربعة : ( ادخلوا ) ، [ ص: 224 ] ( فكلوا ) ، ( وادخلوا الباب ) ، ( وقولوا حطة ) ، والظاهر أنه لا يكون جوابا إلا للآخرين ، وعليه المعنى ; لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها ، وإنما يترتب على دخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود ، وبقوله : (وقولوا حطة ) لأن فيه السؤال بحط الذنوب ، وذلك لقوة المناسبة وللمجاورة . ويدل على ترتب ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى : ( وقولوا حطة ) ، ( وادخلوا الباب سجدا ) ، ( نغفر ) ، والقصة واحدة . فرتب الغفران هناك على قولهم حطة وعلى دخول الباب سجدا ، لما تضمنه الدخول من السجود . وفي تخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وأنها لمطلق الجمع . وقرأ من الجمهور بإظهار الراء من ( نغفر ) عند اللام ، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف .

( وسنزيد ) : هنا بالواو ، وفي الأعراف ( سنزيد ) ، والتي في الأعراف مختصرة . ألا ترى إلى سقوط رغدا والواو من : ( وسنزيد ) . وقوله : ( فأرسلنا عليهم ) بدل ( فأنزلنا على الذين ظلموا ) ، وإثبات ذلك هنا ، وناسب الإسهاب هنا والاختصار هناك .

والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم ، وضده النقص . ( المحسنين ) ، قيل : الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة ، وقيل : المحسنين منهم ، فقيل : معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثوابا ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسنا منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئا بعد ذلك زدناه ثوابا ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسنا منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئا مخطئا نغفر له خطيئته ، وكانوا على هذين الصنفين ، فأعلمهم الله أنهم إذا فعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجدا وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم . وقيل : المحسنون من دخل ، كما أمر وقال : لا إله إلا الله ، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم . فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي ، أي كان محسنا ، أو في المستقبل ، أي من أحسن منهم بعد ، أو في الحال ، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ما أمرتم به من دخول الباب سجدا والقول حطة ، وهذه الجملة معطوفة على : ( وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ) ، وليست معطوفة على ( نغفر ) فتكون جوابا ، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الأعراف في قوله سنزيد ؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيبا على دخول الباب سجدا والقول حطة ، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله .

التالي السابق


الخدمات العلمية