الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        252 - الحديث الثاني : عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه { أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا ، وهو بالأبواء أو بودان - فرده عليه . فلما رأى ما في وجهي ، قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم } وفي لفظ لمسلم " رجل حمار " وفي لفظ " شق حمار " وفي لفظ " عجز حمار " .

                                        التالي السابق


                                        وجه هذا الحديث : أنه ظن أنه صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله " الصعب " بالصاد المهملة والعين المهملة أيضا و " جثامة " بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة وفتح الميم . [ ص: 486 ] وقوله " أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم " الأصل : أن يتعدى " أهدى " بإلى ، وقد يتعدى باللام ، ويكون بمعناه . وقد يحتمل أن تكون اللام بمعنى " أجل " وهو ضعيف .

                                        وقوله حمارا وحشيا " ظاهره : أنه أهداه بجملته وحمل على أنه كان حيا . وعليه يدل تبويب البخاري رحمه الله وقيل : إنه تأويل مالك رحمه الله وعلى مقتضاه : يستدل بالحديث على منع وضع المحرم يده على الصيد بطريق التملك بالهدية ، ويقاس عليها : ما في معناها من البيع والهبة ، إلا أنه رد هذا التأويل بالروايات التي ذكرها المصنف عن مسلم ، من قوله " عجز حمار ، أو شق حمار ، أو رجل حمار " فإنها قوية الدلالة على كون المهدى بعضا وغير حي . فيحتمل قوله " حمارا وحشيا " المجاز . وتسمية البعض باسم الكل ، أو فيه حذف مضاف ، ولا تبقى فيه دلالة على ما ذكر من تملك الصيد بالهبة على هذا التقدير .

                                        وقوله صلى الله عليه وسلم " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " . " إنا " الأولى مكسورة الهمزة ; لأنها ابتدائية . والثانية مفتوحة ; لأنها حذف منها اللام التي للتعليل . وأصله : إلا لأنا .

                                        وقوله " لم نرده " المشهور عند المحدثين : فيه فتح الدال . وهو خلاف مذهب المحققين من النحاة ، ومقتضى مذهب سيبويه . وهم ضم الدال . وذلك في كل مضاعف مجزوم ، أو موقوف ، اتصل به هاء ضمير المذكر . وذلك معلل عندهم بأن الهاء حرف خفي ، فكأن الواو تالية للدال ، لعدم الاعتداد بالهاء ، وما قبل الواو : يضم . وعبروا عن ضمتها بالاتباع لما بعدها . وهذا بخلاف ضمير المؤنث إذا اتصل بالمضاعف المشدد . فإنه يفتح باتفاق . وحكي في مثل هذا الأول الموقوف لغتان أخريان . إحداهما : الفتح ، كما يقول المحدثون . والثانية : الكسر . وأنشد فيه :

                                        قال أبو ليلى لحبلى مده حتى إذا مددته فشده إن أبا ليلى نسيج وحده





                                        . وقوله عليه السلام " إلا أنا حرم " يتمسك به في منع أكل المحرم لحم الصيد مطلقا فإنه علل ذلك بمجرد الإحرام . والذين أباحوا أكله : لا يكون مجرد [ ص: 487 ] الإحرام عندهم علة وقد قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده ; لأنه صيد لأجله ، جمعا بينه وبين حديث أبي قتادة ، و " الحرم " جمع حرام .

                                        و " الأبواء " بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد . و " ودان " بفتح الواو وتشديد الدال ، آخره نون : موضعان معروفان فيما بين مكة والمدينة .

                                        ولمسألة أكل المحرم الصيد ، تعلق بقوله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وهل المراد بالصيد : نفس الاصطياد ، أو المصيد ؟ وللاستقصاء فيه موضع غير هذا . ولكن تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم حرم قد يكون إشارة إليه .

                                        وفي اعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للصعب : تطييب لقلبه ، لما عرض له من الكراهة في رد هديته . ويؤخذ منه : استحباب مثل ذلك من الاعتذار .

                                        وقوله " فلما رأى ما في وجهي " يريد من الكراهة بسبب الرد .




                                        الخدمات العلمية