الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فإن الصفة الحادثة عند الكرامية إنما هو قوله: كن، والإرادة هي مستند المحدثات . وعند ذلك فلا حاجة إلى الحادث الذي هو القول والإرادة، لإمكان إسناد جميع المحدثات إلى القدرة القديمة .

قلنا: أما الأول فمندفع، فإن القصد إلى إيجاد الصفة ، وإن استدعى القصد إلى محل حدوثها ، فإنما يلزم من ذلك أن يكون المحل في الجهة أن لو كان القصد بمعنى الإشارة إلى الجهة، وليس كذلك ، بل بمعنى إرادة إحداث الصفة فيه ، وذلك غير موجب للجهة .

ثم وإن كان القصد إلى إيجاد الصفة في المحل يوجب كون المحل في الجهة ، فيلزم من ذلك امتناع القصد من الله تعالى إلى إيجاد الأعراض ، لأن القصد إلى إيجادها يكون قصدا لمحالها ، ويلزم من ذلك أن تكون محالها في الجهات . والقصد إلى ما هو في جهة ممن ليس [ ص: 43 ] في الجهة محال ، وذلك يفضي إلى أن يكون الرب في الجهة عند قصد خلق الأعراض ، وهو محال .

والقول بأنه إذا جاز خلق بعض الحوادث في ذاته جاز خلق كل حادث ، فدعوى مجردة وقياس من غير جامع، وهو باطل على ما أسلفناه في تحقيق الدليل .

وأما الثاني فحاصله يرجع إلى لزوم رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله تعالى، وهو غير موافق لأصولنا، وإن كان ذلك بطريق الإلزام للخصم، فلعله لا يقول به . وإن كان قائلا به فليس القول بتخطئته في القول بحلول الحوادث بذات الرب تعالى ضرورة تصويبه في رعاية الحكمة أولى من العكس" .

قلت : هذه الحجة مادتها من الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله ، الذين يقولون: إن الرب لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا. ولهذا يستدل بهذه الحجة على نفي الحوادث المنفصلة، كما يستدل بها على نفي الحوادث المتصلة، وهو أن الموجب لحدوث [ ص: 44 ] الحادث مطلقا من الذات : إن كان الذات لزم دوامه ، وإن كان خارجا عنها فإن كان معلولا للذات لزم الدور ، لأن ذلك الحادث موقوف على ذلك المعلول الخارج، وذلك المعلول الخارج لا بد أن يكون حادثا، وإلا لو كان قديما لكان كمال المقتضي لذلك الحادث قديما، وهو الذات ومعلولها القديم ، وإذا كان المعلول الخارج حادثا فلا يحدث إلا بسبب حادث في الذات، وإلا لزم حدوث الحادث بلا سبب، فيلزم أن يكون ما حدث في الذات من الذات موقوفا على الحادث الخارج. وما حدث في الخارج موقوفا على الحادث فيها فيلزم الدور، وإن كان الخارج ليس من مقتضيات الذات لزم أن يكون واجبا بنفسه، فيكون ما يقوم بالرب من الحوادث موقوفا على ذلك الواجب بنفسه، ثم قال: "فيكون أولى بالإلهية" فهذه عمدة هؤلاء الدهرية في نفي فعله للحوادث سواء كانت قائمة به أو بغيره .

ولهذا بين الآمدي ضعفها بين المتكلمين المنازعين للكرامية. فإنه قال: "الكرامية يقولون في الحوادث بذاته كما تقولون أنتم في الحوادث المنفصلة عنه، فكما أن تلك الحوادث تحدث عندكم بكونه قادرا، أو بالقدرة أو المشيئة القديمة، فهكذا نقول فيما يقوم بذاته" .

ولا ريب أن ما ذكره جواب تنقطع به عنهم مطالبة إخوانهم المتكلمين من المعتزلة والأشعرية، ولكن لا تنقطع عنهم مطالبة [ ص: 45 ] الفلاسفة إلا بما يقوله الجميع من أن القادر المختار يرجح أحد المتساويين لا لمرجح، أو أن الإرادة الأزلية ترجح أحد المتساويين لا لمرجح .

والمنازعون في هذا من أهل الحديث والكلام والفلسفة يقولون: إن هذا جحد للضرورة، وإن هذا يقدح فيما به أثبتوا وجود الصانع، فإنهم أثبتوا الصانع بأن ترجيح أحد المتساويين لا بد له من مرجح ، وقد عرف كلام الناس في هذا المقام .

التالي السابق


الخدمات العلمية