الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الأسئلة التي ذكر أبو الحسن الآمدي أنهم أوردوها على هذه الحجة فهي ضعيفة كما ذكر ضعفها ، ويمكن الجواب عنها ما ذكر أيضا .

أما قول القائل : القاصد إلى الحدوث في محل يستدعي كون المحل في جهة . فإن أراد به ما يقصد حدوثه في محل مباين له ، فالكرامية [ ص: 52 ] تقول بموجب ذلك . وليس هذا محل الأنواع هنا . ثم القائل لهذا إما أن يجوز كون الأمور المباينة للرب في جهة منه ، أو لا يجوز ذلك .

فإن جوزه فقال بموجبه مع بقاء محل النزاع ، وإن لم يجوزه كان ذلك دليلا على فساد قوله في مسألة الجهة ، وحينئذ فيكون ذلك أقوى لقول الكرامية ومن وافقهم .

وإن أرادا أن ما يقصد حدوثه في محل هو ذاته ، يوجب أن تكون ذاته في جهة من ذاته .

فيقال له : هل يعقل كون الشيء في جهة من نفسه أم لا؟ فإن عقل ذلك قالوا بموجب التلازم ، وإن لم يعقل ذلك منعوا التلازم .

يبين ذلك أن الإنسان يحدث حوادث في نفسه بقصده وإرادته . وهذا السؤال يرد عليها ، فإن عقل كون نفسه في جهة من نفسه ، أمكن للمنازعين أن يقولوا بموجب ذلك في كل شيء ، وإلا فلا .

وأيضا فيقال : قصد الشيء إما أن يستلزم كونه بجهة من المقاصد ، وإما أن لا يستلزم ذلك . فإن استلزم ذلك . لزم كون جميع الأجسام بجهة من الرب ، فإنه إذا أحدث فيها الأعراض الحادثة كان قاصدا لها على ما ذكروه ، فيلزم أن يكون بجهة منه على هذا التقدير . وحينئذ فيكون هو أيضا بجهة منها ، لامتناع كون أحد الشيئين بجهة من الآخر ، من غير عكس ، كما ذكروه ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون الباري في جهة . [ ص: 53 ]

وإذا كان كذلك بطلت حجتهم ، لأن غايتها أن قصده للحوادث في ذاته يستلزم كون ذاته في جهة ، بطل نفي هذا اللازم .

وإما أن يقال : قصد الشيء لا يستلزم كونه بجهة من القاصد ، وحينئذ فبطلت هذه الحجة ، فثبت بطلانها على التقديرين .

وإيضاح فسادها أنها مبنية على مقدمتين ، وصحة إحداهما تستلزم بطلان الأخرى ، وبطلانها يتضمن بطلان إحدى المقدمتين ، فثبت بطلان إحداهما على كل تقدير ، وإذا بطلت إحدى المقدمتين بطلت الحجة ، فإن إحدى المقدمتين أن القاصد لا يقصد إلا ما هو في جهة . والثانية أن كون الباري في الجهة محال . فإن كانت المقدمة الأولى صحيحة لزم أن يكون في الجهة ، لأنه يقصد حدوث حوادث قطعا ، فبطلت الثانية . وإن كانت الأولى باطلة ، بطلت الحجة أيضا لبطلان إحدى مقدمتيها .

وكما أن فساد هذه الحجة ظاهر على أصول أهل الملل وغيرهم ممن يقول بحدوث العالم ، فبطلانها على رأي الفلاسفة الدهرية أظهر . فإن هؤلاء لا ينكرون حدوث الحوادث ، فإن قالوا : إنها حادثة عن علة أزلية موجبة بنفسها ، كما يقوله ابن سينا وأمثاله ، فهؤلاء يقولون بأن الحوادث تحدث عنه بوسائط . [ ص: 54 ]

وحينئذ فيقال : إما أن ذلك يستلزم كونها منه في جهة أو لا يستلزم؟ وتبطل الحجة على التقديرين كما تقدم .

وإن قالوا : بل العالم واجب الوجود بنفسه ، فقد قالوا بحدوث الحوادث عن القديم الواجب بنفسه وقيامها به ، فإن الحوادث قائمة بذات الأفلاك ، وحينئذ فكل ما يحتج به على نقيض ذلك فهو باطل ، فإن صحة أحد النقيضين تستلزم بطلان الآخر ، وبطلان اللازم يقتضي بطلان الملزوم ، والدليل مستلزم للمدلول ، والمدلول لازم للدليل . فإذا بطل اللازم الذي هو المدلول ، كانت أدلته المستلزمة له كلها باطلة .

وهذا الجواب خير من جواب الآمدي بقوله : "القصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال" فإن جميع نفاة الجهة من أهل الكلام يقولون إن الرب تعالى يقصد إلى ما هو في جهة من المخلوقات ، والقصد منه . وليس هو في جهة عندهم .

بل يقال جوابا قاطعا : القصد في الجهة ممن ليس في الجهة ، إن كان ممكنا بطلت المقدمة الأولى من الاعتراض ، وإن كان ممتنعا بطلت المقدمة الثانية . [ ص: 55 ]

وأما الاعتراض الثاني ، وهو قولهم : لجاز قيام كل حادث به ، فظاهر الفساد . فإنا إذا جوزنا قيام صفة به، لم يلزم قيام كل صفة به، فإذا جوزنا أن تقوم به صفات الكمال: كالحياة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والكلام، لم يلزم أن تقوم صفات النقص به ، كالجهل المركب ، والمرض ، والسنة ، والنوم ، وغير ذلك من النقائص الوجودية . وإذا جوزنا أن يقوم به كلام لم نجوز قيام كل كلام به، وإذا جاز إرادة به لم يجز قيام إرادة كل شيء به ، وإنما يقوم به ما يليق بجلاله ، وما يناسب كبرياءه، إذ هو موصوف بصفات الكمال ، ولا يوصف بنقائضها بحال .

وذلك لأن كونه سبحانه قابلا لأن تقوم به الصفات أو الحوادث ، لم يكن لمجرد كون ذلك صفة أو حادثا ، فيلزم طرد ذلك في كل صفة وحادث ، كما أنه إذا قيل : تقوم به أمور وجودية ، ولم يلزم أن يقوم به كل موجود ، لأن قيام الصفات الوجودية به لم يكن لمجرد كونها موجودة ، حتى يقوم به كل موجود ، وهذا كما إذا قلنا : إن رب العالمين قائم بنفسه ، وهو موجود ، وهو ذات متصفة بالصفات ، لم يلزم من ذلك أن يكون كل ما هو قائم بنفسه ، وهو موجود ، وهو ذات متصفة بالصفات ، أن يكون رب العالمين .

والناس متنازعون في صفاته : هل تسمى أعراضا أو لا تسمى؟ مع تنازعهم في ثبوتها ونفيها ، ففي مثبتة الصفات ونفاتها من يسميها أعراضا . [ ص: 56 ]

فإذا قيل : لو جاز أن يقوم به عرض لزم أن يقوم به كل عرض ، لكان هذا أيضا باطلا ، فإن ذلك لم يكن لكونه عرضا فيلزم قيام كل عرض به .

التالي السابق


الخدمات العلمية