الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  154 21 - حدثنا أحمد بن محمد المكي قال : حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو المكي عن جده ، عن أبي هريرة قال : اتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج لحاجته ، فكان لا يلتفت ، فدنوت منه فقال : أبغني أحجارا أستنفض بها أو نحوه ولا تأتني بعظم ولا روث ، فأتيته بأحجار بطرف ثيابي فوضعتها إلى جنبه وأعرضت عنه ، فلما قضى أتبعه بهن .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة في قوله : « ابغني أحجارا أستنفض بها " لأن معناه أستنجي بها ، كما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم أربعة :

                                                                                                                                                                                  الأول : أحمد بن محمد بن عون بالنون أبو الوليد الغساني الأزرقي المكي ، جد أبي الوليد محمد بن عبد الله صاحب تاريخ مكة ، وفي طبقته أحمد بن محمد المكي أيضا ; لكن كنيته أبو محمد ، وجده عون يعرف بالقواس ، وقد وهم من زعم أن البخاري روى عن أبي محمد الذي في طبقته ، وإنما روى عن أبي الوليد وهم أيضا من جعلهما واحدا ، روى أبو الوليد المذكور عن مالك وغيره ، وروى عنه البخاري وحفيده مؤرخ مكة محمد بن عبد الله وأبو جعفر الترمذي وآخرون ، مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي أبو أمية القريشي المكي الأموي ، وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق الذي ولي إمرة المدينة ، وكان يجهز البعوث إلى مكة ، وكان عمرو هذا قد تغلب على دمشق في زمن عبد الملك بن مروان فقتله عبد الملك وسير أولاده إلى المدينة ، وسكن ولده مكة لما ظهرت دولة بني العباس ، فاستمروا بها ، وعمرو بن يحيى روى عن أبيه وجده ، وعنه سويد وغيره ، روى له البخاري وابن ماجه .

                                                                                                                                                                                  الثالث : جده سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي بن أبي أحيحة التابعي الثقة ، روى عن ابن عباس وغيره ، وعنه ابناه إسحاق وخالد وحفيده عمرو بن يحيى ، روى له الجماعة سوى الترمذي .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أبو هريرة عبد الرحمن رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ، ومنها أن فيه مكيين ومدنيين ، ومنها أنه من رباعيات البخاري ، ومنها أن فيه رواية الابن عن الجد .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره ) .

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا مطولا في ذكر الجن عن موسى بن إسماعيل ، عن عمرو بن يحيى بن سعيد ، عن جده به ، ولم يخرجه مسلم ولا الأربعة ، وأخرجه رزين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم "ابغني أحجارا أستنفض بها ، ولا تأتني بعظم ولا بروثة . قلت : ما بال العظم والروثة ؟ قال : هما من طعام الجن ، وأنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن ، فسألوني عن الزاد ، فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروث إلا وجدوا عليهما طعاما" .

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « اتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - " بتشديد التاء المثناة من فوق ، أي : سرت وراءه ، وقد أشبعنا الكلام فيه في باب : من حمل الماء لطهوره عن قريب ، قوله : « ابغني " يجوز في همزته الوصل إذا كان من الثلاثي ، معناه اطلب لي ، يقال بغيتك الشيء ، أي : طلبته لك ، والقطع إذا كان من المزيد معناه أعني على الطلب ، يقال : أبغيتك الشيء إذا أعنتك على طلبه ، وكلاهما روايتان ، وقال الجوهري : بغيت الشيء طلبته ، وبغيتك الشيء طلبته لك ، وأبغيته الشيء أعنته على طلبه ، وقال ابن التين : رويناه بالوصل ، قال الخطابي : معناه اطلب لي ، من بغيت الشيء طلبته ، وبغيتك الشيء طلبته لك ، وأبغيتك الشيء جعلتك طالبا له ، قال تعالى يبغونكم الفتنة أي : يبغونها لكم .

                                                                                                                                                                                  وقال أبو علي الهجري في أماليه : بغيت الخير بغاء . قلت : بكسر الباء ، وقال أبو الحسن اللحياني في نوادره : يقال بغى الرجل الحاجة والعلم والخير وكل شيء يطلب يبغى بغاء . قلت : بضم الباء ، وبغية بكسر الباء وبغى كذلك ، وبغية بالضم وبغى كذلك ، واستبغى القوم فبغوه وبغوا له ، أي : طلبوا له ، وفي المحكم المعروف بغاء . قلت : بالضم والاسم البغية والبغية ، وقال ثعلب : بغى الخير بغية وبغية فجعلهما مصدرين والبغية والبغية والبغية ما ابتغي ، وأبغاه الشيء طلبه له أو أعانه على طلبه ، والجمع بغاة وبغيان .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 299 ] وابتغى الشيء تيسر وتسهل ، وبغى الشيء بغوا نظر إليه كيف هو ، وفي الجامع للقزاز : أبغي كذا ، أي : أعني عليه واطلبه معي ، وفي الواعي لعبد الحق الإشبيلي : البغاء الطلب . قلت : بالضم ، وفي الصحاح : كل طلبة بغاء بالضم وبالمد وبغاية أيضا ، وابتغيت الشيء وتبغيه إذا طلبته ، قال ساعدة بن جوية الهذلي :

                                                                                                                                                                                  سباع تبغى الناس مثنى وموحدا

                                                                                                                                                                                  قوله : « أستنفض " على وزن أستفعل من النفض بالنون والفاء والضاد المعجمة ، وهو أن يهز الشيء ليطير غباره أو يزول ما عليه ، ومعناه ها هنا أستنظف بها ، أي : أنظف بها نفسي من الحدث ، وفي المطالع : ابغي أحجارا أستنفض بها ، أي : أستنج بها مما هنالك ، ونفاضة كل شيء ما نفضته فسقط منه ، وفي الواعي : أستنفض بها ، أي : أستنجي بها ، وهو أن ينفض عن نفسه أذى الحدث ، فقال : هذا موضع مستنفض ، أي : متبرز ، وفي كتاب ابن طريف : نفضت الأرض تتبعت مغانيها ، ونفضت الشيء نفضا حركته ليسقط عنه ما علق به .

                                                                                                                                                                                  وقال المطرزي : الاستنفاض الاستخراج ، ويكنى به عن الاستنجاء ، وقال : ومن رواه بالقاف والصاد المهملة فقد صحف . قلت : قال الصغاني في العباب : استنفاض الذكر وانتقاصه استبراؤه مما فيه من بقية البول . قلت : الأول بالفاء والضاد المعجمة ، والثاني بالقاف والضاد المعجمة أيضا ، والثالث بالقاف والمهملة ، وذكر أيضا في باب نقص بالقاف والمهملة ، وقال أبو عبيد : انتقاص الماء غسل الذكر بالماء ; لأنه إذا غسل بالماء ارتد البول ، ولم ينزل ، وإن لم يغسل نزل منه الشيء بعد الشيء حتى يستبرئ .

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « اتبعت النبي - عليه الصلاة والسلام - " جملة وقعت مقول القول ، قوله : « وخرج لحاجته " جملة وقعت حالا بتقدير قد ، والتقدير : وقد خرج ، وقد علم أن الفعل الماضي إذا وقع حالا فلا بد فيه من قد ، إما ظاهرة أو مقدرة ، ويجوز فيه الواو وتركه ، كما في قوله تعالى أو جاءوكم حصرت صدورهم والتقدير : قد حصرت ، وقد وقع بدون الواو ، قوله : « فكان لا يلتفت " بفاء العطف في رواية أبي ذر ، وفي رواية غيره وكان بالواو .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما وجه الواو فيه . قلت : للحال ، وقول بعضهم : وكان استئنافية ، غير صحيح على ما لا يخفى ، قوله : «فقال ابغني " بوصل الهمزة وقطعها ، كما ذكرناه ، قوله : « أحجارا " نصب على أنه مفعول ثان ابغني ، قوله : « أستنفض " مجزوم ; لأنه جواب الأمر ، ويجوز رفعه على الاستئناف ، قوله : « أو نحوه " بالنصب ; لأنه مقول القول ، وهو في المعنى جملة ، والتقدير : أو قال نحو قوله : « أستنفض بها " وذلك نحو قوله : « أستنجي بها " وكذا وقع في رواية الإسماعيلي "أستنجي بها" والتردد فيه من بعض الرواة ، قوله : « بطرف ثيابي " الباء ظرفية .

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « فكان لا يلتفت " أي : فكان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إذا مشى لا يلتفت وراءه ، وكان هذا عادة مشيه عليه الصلاة والسلام ، قوله : « فدنوت منه " أي : قربت منه لأستأنس به وأقضي حاجته ، وفي رواية الإسماعيلي : أستأنس ، فقال من هذا . قلت : أبو هريرة ، قوله : « فقال ابغني أحجارا " وفي رواية الإسماعيلي "ائتني" ، قوله : « ولا تأتني بعظم " كأنه عليه الصلاة والسلام خشي أن يفهم أبو هريرة من قوله : « أستنفض بها " أن كل ما يزيل الأثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالأحجار ، فنبه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزئ ، ولو كان ذلك مختصا بالأحجار ، كما يقول أهل الظاهر وبعض الحنابلة لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنى ، قال الخطابي : وفي النهي عنهما دليل على أن أعيان الحجارة غير مختصة بهذا المعنى ، وذلك لأنه لما أمر بالأحجار ، ثم استثنى هذين وخصهما بالنهي دل على أن ما عداهما قد دخل في الإباحة ، ولو كانت الحجارة مخصوصة بذلك لم يكن لتخصيصهما بالذكر معنى ، وإنما جرى ذكر الحجارة وسيق اللفظ إليها ; لأنها كانت أكثر الأشياء التي يستنجى بها وجودا وأقربها تناولا .

                                                                                                                                                                                  وقال أهل الظاهر : الحجر متعين لا يجزئ غيره ، وقال أصحابنا : الذي يقوم مقام الحجر كل جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة ، وقال ابن بطال : لما نهى عنهما دل على أن ما عداهما بخلافهما وإلا لم يكن لتخصيصهما فائدة تدبر ; فإن قيل : إنما نص عليهما تنبيها على أن ما عداهما في معناهما : . قلنا : هذا لا يجوز ; لأن التنبيه إنما يفيد إذا كان في المنبه عليه معنى المنبه له وزيادة كقوله تعالى فلا تقل لهما أف وليس في سائر الطاهرات معناهما فلم يقع التنبيه عليهما انتهى .

                                                                                                                                                                                  قلت : التعليل في العظم والروث إن كان هو كونهما من طعام الجن على ما سيجيء في رواية البخاري في المبعث في هذا الحديث أن أبا هريرة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أن فرغ : ما بال العظم والروث ؟ قال : هما من طعام الجن . فيلحق بهما سائر المطعومات للآدميين بطريق القياس ، وكذا المحترمات كأوراق كتب العلم ، وإن كان هو النجاسة في الروث [ ص: 300 ] فيلحق به كل نجس ، وفي العظم هو كونه لزجا فلا يزيل إزالة تامة فيلحق به ما في معناه كالزجاج الأملس ، وقال الخطابي : قيل المعنى في ذلك أن العظم لزج لا يكاد يتماسك فيقلع النجاسة وينشف البلة ، وقيل : إن العظم لا يكاد يعرى من بقية دسم قد علق به ، ونوع العظم قد يتأتى فيه الأكل لبني آدم ; لأن الرخو الرقيق منه قد يتمشش في حال الرفاهية ، والغليظ الصلب منه يدق ويستف منه عند المجاعة والشدة ، وقد حرم الاستنجاء بالمطعوم . قلت : هذان وجهان ، والثالث كونه طعام الجن ، وأما الروث فلأنه نجس ، كما ذكرناه ، أو لأنه طعام دواب الجن ، وقال الحافظ أبو نعيم في دلائل النبوة : إن الجن سألوا هدية منه - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم العظم والروث ، فالعظم لهم والروث لدوابهم ; فإذا لا يستنجى بهما رأسا .

                                                                                                                                                                                  وأما لأنه طعام للجن أنفسهم روى أبو عبد الله الحاكم في الدلائل "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود رضي الله تعالى عنه ليلة الجن : أولئك جن نصيبين جاؤوني فسألوني الزاد ، فمتعتهم بالعظم والروث ، فقال له : وما يغني منهم ذلك يا رسول الله ؟ قال : إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أخذ ، ولا وجدوا روثا إلا وجدوا فيه حبه الذي كان يوم أكل فلا يستنجي أحد لا بعظم ولا بروث" ، وفي رواية أبي داود "أنهم قالوا : يا محمد إنه أمتك لا يستنجوا بعظم ولا بروث أو حممة ; فإن الله تعالى جعل لنا رزقا فيها ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم عنه" .

                                                                                                                                                                                  قلت : الحممة ، بضم الحاء المهملة وفتح الميمين ، وهي الفحم وما احترق من الخشب والعظام ونحوها ، وجمعها حمم ، قوله : « بطرف ثيابي " أي : في جانب ثيابي ، أي وفي صحيح الإسماعيلي في طرف ملائي ، وقال الكرماني : والثياب يحتمل أن يراد به الجمع ، وأن يراد به الجنس ، كما يقال : فلان يركب الخيول . قلت : فيه نظر ; لأن ما ذكره إنما يمشي في الجمع المحلى بالألف واللام ، كما في المثال المذكور ، قوله : « وأعرضت عنه " كذا في أكثر الروايات ، وفي رواية الكشميهني "واعترضت" بزيادة التاء المثناة من فوق بعد العين ، قوله : « فلما قضى " أي : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمفعول محذوف تقديره : فلما قضى حاجته ، قوله : « أتبعه بهن " أي : بالأحجار وهمزة أتبعه همزة قطع ، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى القضاء الذي يدل عليه قوله : « فلما قضى " وكنى بذلك عن الاستنجاء .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه جواز استنجاء بالأحجار ، وفيه الرد على من أنكر ذلك ، كما بيناه مستقصى .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه مشروعية الاستنجاء ، وقد اختلف العلماء فيه ، فمنهم من قال بوجوبه واشتراطه في صحة الصلاة ، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأبو داود ومالك في رواية ، ومنهم من قال بأنه سنة ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك في رواية والمزني من أصحاب الشافعي ، واحتجوا في ذلك بما رواه أبو داود : حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال : أخبرنا عيسى بن يونس ، عن ثور ، عن الحصين الحمراني ، عن أبي سعيد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : " من اكتحل فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج ، ومن استجمر فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج " الحديث .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أحمد أيضا في مسنده : حدثنا شريح ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن ثور ، عن الحصين ، كذا قال عن أبي سعيد الخير ، وكان من أصحاب عمر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخره نحوه .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الطحاوي في الآثار : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا يحيى بن حسن قال : حدثنا عيسى بن يونس قال : حدثنا ثور بن يزيد ، عن حصين الحمراني ، عن أبي سعيد الخير ، عن أبي هريرة إلى آخره نحوه ، فالحديث صحيح ورجاله ثقات .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال أبو عمرو بن حزم والبيهقي ليس إسناده بالقائم مجهولان يعنون حصينا فيه الحمراني وأبا سعيد الخير . قلت : هذا كلام ساقط ; لأن أبا زرعة الدمشقي قال في حصين : هذا شيخ معروف ، وقال يعقوب بن سفيان في تاريخه : لا أعلم إلا خيرا ، وقال أبو حاتم الرازي : شيخ ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وأما أبو سعيد الخير فقد قال أبو داود ويعقوب بن سفيان والعسكري وابن بنت منيع في آخرين : إنه من الصحابة .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه ابن حبان أيضا في صحيحه ، وذكر أبا سعيد في كتاب الصحابة وسماه عامرا ، وسماه البغوي عمرا ، وسماه صاحب التهذيب زيادا ، وسماه البخاري سعدا ، وقالوا أيضا : إنه كدم البراغيث ; لأنه نجاسة لا تجب إزالة أثرها ، فكذا عينها لا يجب إزالتها بالماء فلا يجب بغيره ، وقال المزني : لأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم تجب إزالتها كالمني .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : استدلالهم بالحديث غير تام ; لأن المراد لا حرج في ترك الإيتار ، أي : الزائد على ثلاثة أحجار ، وليس المراد ترك أصل الاستنجاء ، وقال الخطابي : معنى الحديث التمييز بين الماء الذي هو الأصل [ ص: 301 ] وبين الأحجار التي هي للترخيص ، لكنه إذا استجمر بالحجارة فليجعل وترا ، وإلا فلا حرج إلى تركه إلى غيره ، وليس معناه ترك التعبد أصلا بدليل حديث سلمان "نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" . قلت : الشارع نفى الحرج عن تارك الاستنجاء ، فدل على أنه ليس بواجب ، وكذلك ترك الإيتار لا يضر ; لأن ترك أصله لما لم يكن مانعا ، فما ظنك بترك وصفه ، فدل الحديث على انتفاء المجموع .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال الخطابي : فيه وجه آخر ، وهو رفع الحرج في الزيادة على الثلاث ، وذلك أن مجاوزة الثلاث في الماء عدوان وترك للسنة ، والزيادة في الأحجار ليست بعدوان وإن صارت شفعا . قلت : هذا الوجه لا يفهم من هذا الكلام على ما لا يخفى على الفطن ، وأيضا مجاوزة الثلاث في الماء كيف تكون عدوانا إذا لم تحصل الطهارة بالثلاث ، والزيادة في الأحجار وإن كانت شفعا كيف لا يصير عدوانا ، وقد نص على الإيتار فافهم .

                                                                                                                                                                                  وأهل المقالة الأولى احتجوا بظاهر الأوامر الواردة في حديث أبي هريرة "وليستنج بثلاثة أحجار" ، وفي حديث عائشة الذي أخرجه ابن ماجه وأحمد أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : "إذا ذهب أحدهم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن" ، وأحاديث غيرهما ، وأجيب بأن الأمر يحتمل أن يكون على وجه الاستحباب ، والمحتمل لا يصلح حجة إلا بمرجح لأحد المعاني ، وفيما ذكر أهل المقالة الثانية أيضا إعمال الأحاديث كلها ، وفيما قاله هؤلاء إهمال لبعضها ، والعمل بالكل أولى على ما لا يخفى .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أن الأحجار لا تتعين للاستنجاء ; بل يقوم مقامها كل جامد طاهر قالع غير محترم ، وتنصيصه عليه الصلاة والسلام عليها لكونها الغالب الميسر وجودها بلا مشقة ولا كلفة في تحصيلها ، كما ذكرناه مبسوطا .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث ، واختلف العلماء فيه ، فقال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والظاهرية : لا يجوز الاستنجاء بالعظام ، واحتجوا فيه بظاهر الحديث ، وقال ابن قدامة في المغني : والخشب والخروق وكل ما أنقى به كالأحجار إلا الروث والعظام والطعام مقتاتا أو غير مقتات فلا يجوز الاستنجاء به ولا بالروث والعظام ، طاهرا كان أو غير طاهر ، وبه قال الثوري والشافعي وإسحاق ، وقال ابن حزم في المحلى : وممن قال لا يجزئ بالعظام ولا باليمين الشافعي وأبو سليمان ، وقال القاضي : واختلفت الرواية عن مالك في كراهية هذا ، يعني : الاستنجاء بالعظم ، والمشهور عنه النهي عن الاستنجاء به على ما جاء في الحديث ، وعنه أيضا أنه أجاز ذلك ، وقال : ما سمعت في ذلك بنهي عام ، وذهب بعض البغداديين إلى جواز ذلك إذا وقع بمكان ، وهو قول أبي حنيفة ، وفي البدائع : فإن فعل ذلك ، يعني : الاستنجاء بالعظم يعتد به عندنا ، فيكون مقيما سنة ومرتكبا كراهية .

                                                                                                                                                                                  قلت : ذكر ابن جرير الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له عظم يستنجي به ، ثم يتوضأ ويصلي ، وشذ ابن جرير فأجاز الاستنجاء بكل طاهر ونجس ، ويكره بالذهب والفضة عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي في قول لا يكره ، وكره بعض العلماء الاستنجاء بعشرة أشياء : العظم والرجيع والروث والطعام والفحم والزجاج والورق والخرق وورق الشجر والسعتر ، ولو استنجى بها أجزأه مع الكراهة ، وقال بعض الشافعية : يجوز الاستنجاء بالعظم إن كان طاهرا لا زهومة عليه لحصول المقصود ، ولو أحرق العظم الطاهر بالنار وخرج عن حال العظم فوجهان عند الشافعية حكاهما الماوردي ، أحدهما : يجوز الاستنجاء به ; لأن النار أحالته ، والثاني : لا ; لعموم النهي عن الرمة ، وهي العظم البالي ، ولا فرق بين البلى بالنار أو بمرور الزمان ، وهذا أصح .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه كراهة الاستنجاء بجميع المطعومات ; فإنه عليه الصلاة والسلام نبه بالعظم على ذلك ، ويلتحق بها المحترمات كأجزاء الحيوان وأوراق كتب العلم وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                  السادس : فيه إعداد الأحجار للاستنجاء كي لا يحتاج إلى طلبها بعد قيامه فلا يأمن التلوث .

                                                                                                                                                                                  السابع : فيه جواز اتباع السادات بغير إذنهم .

                                                                                                                                                                                  الثامن : فيه استخدام المتبوعين الأتباع .

                                                                                                                                                                                  التاسع : فيه استحباب الإعراض عن قاضي الحاجة .

                                                                                                                                                                                  العاشر : فيه جواز الرواية بالمعنى حيث قال أو نحوه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية