الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومما يدل على جواز الجهر بالاستفتاح وغيره أحيانا ما في الصحيح عن أنس أن رجلا جاء إلى الصلاة وقد حفزه النفس، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: "أيكم المتكلم بالكلمات؟ لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها أيهم يرفعها". فهذا مأموم جهر بهذا الذكر بعد التكبير، وقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بذلك، وهذا دليل على جواز الجهر أحيانا في المواضع التي يخافت فيها، وأن الرجل إذا ذكر الله في الصلاة بما هو من جنسها كان حسنا وإن لم يؤمر به. وهذا موافق لجهر عمر بالاستفتاح. [ ص: 286 ]

وكذلك ما رواه البخاري من حديث رفاعة بن رافع قال: كنا نصلي وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجل وراءه: ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما قضى صلاته قال: "من المتكلم؟ رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها". فهذا أيضا جهر من المأموم بالتحميد الذي هو ليس المأمور به، ولكنه من جنس المأمور به، فإن النبي لم ينقل عنه مثله.

وأيضا فالذين ذكروا أنهم صلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلموا ما كان يفتتح به، وما كان يقوله في ركوعه وسجوده واعتداله، مثل حديث جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فقال: "الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه". رواه أهل السنن ، وهو حديث حسن. فلولا أنه جهر بذلك لما سمعه يقول ذلك، إلا أن يخبره به بعد الصلاة، ولو أخبره كما أخبر أبا هريرة لبين ذلك، ولأنه لم يكن ليخبره من غير استخبار عن الاستفتاح وحده دون بقية أذكار الصلاة، إذ لا موجب للتخصيص.

وكذلك حديث حذيفة أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى"، [ ص: 287 ] وما أتى على آية رحمة إلا سأل، ولا على آية عذاب إلا تعوذ، وهذا كان في قيام الليل. وهو حديث صحيح. وكان يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" ، وهذا بين أنه كان يسمع منه ما قاله في ركوعه وسجوده وبين السجدتين، وكذلك دعاؤه عند آية الرحمة والعذاب. فهذا يقتضي جواز الجهر بذلك.

وكذلك حديث ابن أبي أوفى أنه كان إذا رفع ظهره من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد"، وفي حديث أبي سعيد : "أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد" إلى آخره. وهذا يدل ظاهره على أنهم سمعوا ذلك منه يقوله في الصلاة من غير إخبار منه لهم.

وكذلك حديث عائشة الذي في الصحيح أنه كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن. وقولها في الصحيح : كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح". وأصرح من ذلك ما رواه [ ص: 288 ] مسلم عنها قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة على الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" إلى آخره. فهذا صريح في أنه جهر بهذا الدعاء في سجوده، حتى سمعت ذلك عائشة.

التالي السابق


الخدمات العلمية