الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر قدوم شبيب الكوفة أيضا وانهزامه عنها

ثم سار شبيب من سورا فنزل حمام أعين ، فدعا الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي ، فوجهه في ناس من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب وغيرهم ، فخرج في نحو ألف ، فنزل زرارة ، فبلغ ذلك شبيبا ، فعجل إلى الحارث بن معاوية ، فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه ، وجاء المنهزمون فدخلوا الكوفة ، وجاء شبيب فعسكر بناحية الكوفة وأقام ثلاثا ، فلم يكن في اليوم الأول غير قتل الحارث .

فلما كان اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه ، فأخذوا بأفواه السكك ، وجاء شبيب فنزل السبخة وابتنى بها مسجدا ، فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولاه ، [ ص: 460 ] عليه تجفاف ، ومعه غلمان له وقالوا : هذا الحجاج ، فحمل عليه شبيب فقتله ، وقال : إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه .

ثم أخرج الحجاج غلامه طهمان في مثل تلك العدة والحالة ، فقتله شبيب وقال : إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه .

ثم إن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر ، فطلب بغلا يركبه إلى السبخة ، فأتي ببغل ، فركبه ومعه أهل الشام ، فخرج ، فلما رأى الحجاج شبيبا وأصحابه نزل ، وكان شبيب في ستمائة فارس ، فأقبل نحو الحجاج ، وجعل الحجاج سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك في جماعة الناس ، ودعا الحجاج بكرسي فقعد عليه ثم نادى : [ يا ] أهل الشام ، أنتم أهل السمع والطاعة [ والصبر ] واليقين ، فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم ، غضوا الأبصار ، واجثوا على الركب ، واستقبلوهم بأطراف الأسنة . ففعلوا وأشرعوا الرماح ، وكأنهم حرة سوداء ، وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس ، كتيبة معه ، وكتيبة مع سويد بن سليم ، وكتيبة مع المحلل بن وائل ، وقال لسويد : احمل عليهم في خيلك ، فحمل عليهم ، فثبتوا له ووثبوا في وجهه بأطراف الرماح ، فطعنوه حتى انصرف هو وأصحابه .

وصاح الحجاج : هكذا فافعلوا ، وأمر بكرسيه فقدم ، وأمر شبيب المحلل فحمل عليهم ففعلوا به كذلك ، فناداهم الحجاج : هكذا فافعلوا ، وأمر بكرسيه فقدم .

ثم إن شبيبا حمل عليهم في كتيبته ، فثبتوا له وصنعوا به كذلك ، فقاتلهم طويلا ، ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه . فلما رأى صبرهم نادى : يا سويد ، احمل عليهم بأصحابك على أهل هذه السكة ، لعلك تزيل أهلها ، وتأتي الحجاج من ورائه ، ونحمل نحن عليه من أمامه . فحمل سويد ، فرمي من فوق البيوت وأفواه السكك فرجع . وكان الحجاج قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له ، لئلا يؤتوا من خلفهم ، فجمع شبيب أصحابه ليحمل بهم ، فقال الحجاج : اصبروا لهذه الشدة الواحدة ، ثم هو الفتح . فجثوا على الركب .

وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه ، فوثبوا في وجهه ، وما زالوا يطاعنونه ويضاربونه قدما ، ويدفعونه وأصحابه حتى أجازوهم مكانهم ، وأمر شبيب أصحابه بالنزول ، فنزل نصفهم ، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبيب ثم قال : يا أهل الشام ، هذا أول الفتح ، وصعد المسجد ومعه جماعة معهم النبل ليرموهم إن دنوا منه ، فاقتتلوا عامة النهار أشد قتال رآه الناس حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه .

[ ص: 461 ] ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج : ائذن لي في قتالهم فإني موتور ، فأذن له ، فخرج ومعه جماعة من أهل الكوفة ، وقصد عسكرهم من ورائهم ، فقتل مصادا أخا شبيب ، وقتل امرأته غزالة ، وحرق في عسكره . وأتى الخبر الحجاج وشبيبا ، فكبر الحجاج وأصحابه ، وأما شبيب فركب هو وأصحابه ، وقال الحجاج لأهل الشام : احملوا عليهم ، فإنهم قد أتاهم ما أرعبهم . فشدوا عليهم فهزموهم ، وتخلف شبيب في حامية الناس . فبعث الحجاج إلى خيله : أن دعوه ، فتركوه ورجعوا ، ودخل الحجاج الكوفة فصعد المنبر ثم قال : والله ما قوتل شبيب قبلها ، ولى والله هاربا وترك امرأته يكسر في استها القصب . ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في ثلاثة آلاف فارس من أهل الشام في أثر شبيب وقال له : احذر بياته ، وحيث لقيته فانزل له ، فإن الله - تعالى - قد فل حده ، وقصم نابه .

فخرج في أثره حتى نزل الأنبار ، وكان الحجاج قد نادى عند انهزامهم : من جاءنا منكم فهو آمن . فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه . فلما نزل حبيب الأنبار أتاهم شبيب ، فلما دنا منهم نزل فصلى المغرب ، وكان حبيب قد جعل أصحابه أرباعا ، وقال لكل ربع منهم : ليمنع كل ربع منكم جانبه ، فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر ، فإن الخوارج قريب منكم ، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون .

فأتاهم شبيب وهم على تعبية ، فحمل على ربع فقاتلهم طويلا ، فما زالت قدم إنسان عن موضعها ، ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر فكانوا كذلك ، ثم أتى ربعا آخر فكانوا كذلك ، ثم الربع الرابع ، فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل ، ثم نازلهم راجلا ، فسقطت منهم الأيدي ، وكثرت القتلى ، وفقئت الأعين ، وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين رجلا ، ومن أهل الشام نحو مائة ، واستولى التعب والإعياء على الطائفتين ، ( حتى إن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئا ) ، وحتى إن الرجل ليقاتل جالسا ، فما يستطيع أن يقوم من التعب .

فلما يئس شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم . ثم قطع دجلة وأخذ في أرض جوخى ، ثم قطع دجلة مرة أخرى عند واسط ، ثم أخذ نحو الأهواز ، ثم إلى فارس ، ثم إلى كرمان ليستريح هو ومن معه .

[ ص: 462 ] وقيل في هزيمته غير ذلك ، وهو أن الحجاج كان قد بعث إلى شبيب أميرا فقتله ، ثم أميرا فقتله ، أحدهما أعين صاحب حمام أعين ، ثم جاء شبيب حتى دخل الكوفة ومعه زوجته غزالة ، وكانت نذرت أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران ، واتخذ في عسكره أخصاصا . فجمع الحجاج ليلا بعد أن لقي من شبيب الناس ما لقوا ، فاستشارهم في أمر شبيب ، فأطرقوا ، وفصل قتيبة من الصف فقال : أتأذن لي في الكلام ؟ قال : نعم . قال : إن الأمير ما راقب الله ولا أمير المؤمنين ولا نصح الرعية . قال : وكيف ذلك ؟ قال : لأنك تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعا ، فينهزمون ويستحيي أن ينهزم فيقتل . قال : فما الرأي ؟ قال : الرأي أن تخرج إليه فتحاكمه . قال : فانظر لي معسكرا .

فخرج الناس يلعنون عنبسة بن سعيد ; لأنه هو الذي كلم الحجاج فيه حتى جعله من صحابته ، وصلى الحجاج من الغد الصبح ، واجتمع الناس ، وأقبل قتيبة وقد رأى معسكرا حسنا ، فدخل إلى الحجاج ، ثم خرج ومعه لواء منشور ، وخرج الحجاج يتبعه حتى خرج إلى السبخة وبها شبيب ، وذلك يوم الأربعاء ، فتواقفوا ، وقيل للحجاج : لا تعرفه مكانك ، فأخفى مكانه ، وشبه له أبا الورد مولاه ، فنظر إليه شبيب ، فحمل عليه فضربه بعمود فقتله ، وحمل شبيب على خالد بن عتاب ومن معه وهو على ميسرة الحجاج ، فبلغ بهم الرحبة ، وحمل على مطر بن ناجية وهو على ميمنة الحجاج فكشفه ، فنزل عند ذلك الحجاج ، ونزل أصحابه ، وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد ، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلهل الضبي لجام شبيب وقال : ما تقول في صالح بن مسرح ، وبم تشهد عليه ؟ قال : أعلى هذه الحال ؟ قال : نعم . قال : فبرئ من صالح . فقال له مصقلة : برئ الله منك ، وفارقه إلا أربعين فارسا ، فقال الحجاج : قد اختلفوا ، وأرسل إلى خالد بن عتاب ، فأتى بهم في عسكرهم فقاتلهم فقتلت غزالة ، ومر برأسها إلى الحجاج مع فارس ، فعرفه شبيب ، فأمر رجلا فحمل على الفارس فقتله وجاء بالرأس ، فأمر به فغسل ثم دفنه .

ومضى القوم على حاميتهم ، ورجع خالد فأخبر الحجاج بانصرافهم ، فأمره باتباعهم ، فاتبعهم يحمل عليهم ، فرجع إليه ثمانية نفر فقاتلوه حتى بلغوا به الرحبة ، وأتي شبيب بخوط بن عمير السدوسي فقال : يا خوط لا حكم إلا لله . فقال : ( إن خوطا من أصحابكم ، ولكنه كان يخاف . فأطلقه ، وأتي بعمير بن القعقاع فقال : يا عمير ، [ ص: 463 ] لا حكم إلا لله . فقال : في ) سبيل الله شبابي . فردد عليه شبيب : لا حكم إلا لله . فلم يفقه ما يريد ، فقتله .

وقتل مصاد أخو شبيب ، وجعل شبيب ينتظر الثمانية الذين اتبعوا خالدا ، فأبطئوا ولم يقدم أصحاب الحجاج على شبيب هيبة له ، وأتى إلى شبيب أصحابه الثمانية ، فساروا واتبعهم خالد وقد دخلوا إلى دير بناحية المدائن ، فحصرهم فيه ، فخرجوا عليه فهزموه نحو فرسخين ، فألقوا أنفسهم في دجلة منهزمين ، وألقى خالد نفسه فيها بفرسه ولواؤه بيده ، فقال شبيب : قاتله الله ، هذا أسد الناس ! فقيل : هو خالد بن عتاب . فقال : معرق [ له ] في الشجاعة ، ولو عرفته لأقحمت خلفه ولو دخل النار . ثم سار إلى كرمان ، على ما تقدم ذكره ، وكتب الحجاج إلى عبد الملك يستمده ، ويعرفه عجز أهل الكوفة عن قتال شبيب ، فسير سفيان بن الأبرد في جيش إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية