الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومتنازعون أيضا: هل يمكن أن تكون القدرتان -أو إحداهما- متعلقة بالمقدور في محلها، وخارجة عن محلها جميعا .

والمقصود هنا أن ما عارضهم به معارضة صحيحة ، ولكن كثيرا من الناس من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم يقولون في المقدور ما يقولون في المقبول، ويقولون بجواز حوادث لا تتناهى. ومنهم من يخص ذلك بالمقدورات . [ ص: 66 ]

فيقال لهؤلاء : حينئذ فيجوز حوادث لا تتناهى في المقبولات والمقدورات ، كما في المقدورات المنفصلة ، لا فرق بينهما .

والجواب القاطع المركب أن يقال: إما يكون وجود حوادث لا تتناهي ممكنا، وإما أن يكون ممتنعا ، فإن كان الأول، كان وجود نوع الحوادث في الأزل ممكنا. وحينئذ فلا يكون اللازم منفيا، فتبطل المقدمة الثانية .

وإن كان ممتنعا لم يجز أن يقال: إنه قابل لها في الأزل قبولا يستلزم إمكان وجود المقبول، وحينئذ فلا يلزم وجودها في الأزل، فتبطل المقدمة الأولى .

فتبين أنه لا بد من بطلان إحدى المقدمتين، وأيهما بطلت بطلت الحجة. فهذا جواب ليس بإلزامي ، بل هو علمي يبطل الحجة قطعا .

وهنا طريقة ثالثة في الجواب على قول من قال : إنه لم يزل متكلما إذا شاء، وإن الحركة من لوازم الحياة من أهل السنة والحديث وغيرهم. فإن هؤلاء يقولون: إنه قابل لها في الأزل، وإنها موجودة في الأزل .

وما ذكره من الحجة يستلزم صحة قول هؤلاء في المقدور والمقبول ، فإنهم يقولون: هو قادر عليها فيما لا يزال ، وهي ممكنة فيما لا يزال ، فوجب أنه لم يزل قادرا وأنها ممكنة، فإن هذه القدرة والإمكان: [ ص: 67 ] إما أن تكون قديمة ، وإما أن تكون حادثة. فإن كانت قديمة حصل المطلوب ، وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث، وذلك يستلزم التسلسل ، والتسلسل يتضمن دوام القدرة وإمكان الفعل ، فثبت أنه لم يزل قادرا على الفعل ، والفعل ممكن له ، وهو المطلوب .

وإيضاح ذلك: أنه إذا كان قادرا على الفعل، وجب أن يكون قادرا عليه في الأزل، وإلا كانت القادرية عارضة لذاته، واستدعت القادرية قادرية أخرى ، وذلك يقتضي التسلسل ، فإن كان التسلسل باطلا لزم دوام نوع القادرية ، لأنه يمتنع أن تكون عارضة، إذ كانت العارضة تستلزم التسلسل الباطل على هذا التقدير، وما استلزم الباطل فهو باطل، وإذا امتنع كونها عارضة، ثبت كونها لازمة، لأنه متصف بها قطعا ، وإن كان ممكنا لزم إمكان دوام قادريات لا تتناهى لأنه يتصف بها ، ويمتنع تجددها له ، إذ كانت قدرته من لوازم ذاته لامتناع أن يكون غير القادر يجعل نفسه قادرا بعد أن لم يكن، وذلك يقتضي دوام نوع القادرية ، فلا بد في الأزل من ثبوت القادرية على التقديرين ، وهو المطلوب .

وإذا كان كذلك فالقدرة على الشيء فرع إمكان المقدور ، إذ القادرية نسبة بين القادر والمقدور ، فتستدعي تحقق كل منهما ، وإلا فما لا يكون ممكنا لا يكون مقدورا ، فلا تكون القادرية عليه ثابتة في [ ص: 68 ] الأزل ، فدل على أنه يلزم من ثبوت القدرة في الأزل إمكان وجود المقدور في الأزل .

وحينئذ فذلك يدل على إمكان الفعل في الأزل فلا يكون هنا ما يمنع وجود المقدور المقبول في الأزل، فصار ما ذكروه حجة على النفي هو حجة على الإثبات، لكن هذا حجة لإمكان وجود المقبول في الأزل، ويمكن أن يحتجوا على وجود المقبول في الأزل بأن يقولوا : لو لم يقم بذاته ما هو مقدور مراد له دائما، للزم أن لا يحدث شيئا، لكنه قد أحدث الحوادث، فثبت دوام فاعليته وقابليته لما يقوم بذاته من مقدورات ومرادات .

وبيان التلازم : أن الحادث بعد أن لم يكن إن حدث بغير سبب لزم ترجيح الممكن بلا مرجح ، وتخصيص أحد المثلين من الوقتين وغيرهما بلا مخصص، وهذا ممتنع .

وإن حدث بالسبب، فالقول في ذلك السبب كالقول في غيره، فيلزم تسلسل الحوادث .

ثم تلك الحوادث الدائمة : إما أن تحدث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها، وهو ممتنع، لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء منه، وإما أن تحدث عن غير علة تامة، وما ليس بعلة تامة ففعله للحادث موقوف على الشرط الذي به يتم فاعليته لذلك الحادث . [ ص: 69 ]

وذلك الشرط إما منه ، وإما من غيره . فإن كان من غيره، لزم أن يكون رب العالمين محتاجا في أفعاله إلى غيره، وإن كان منه، لزم أن يكون دائما فاعلا للحوادث .

وتلك الحوادث : إما أن تحدث بغير أحوال تقوم به، وإما أنه لا بد من أحوال تقوم به . والثاني يستلزم أنه لم يزل قادرا قابلا فاعلا، تقوم به الأفعال . والأول باطل ، لأنه إذا كان في نفسه أزلا وأبدا على حال واحدة لم يقم به حال من الأحوال أصلا، كانت نسبة الأزمان والكائنات إليه واحدة فلم يكن تخصيص أحد الزمانين بحوادث تخالف الحوادث في الزمان الآخر أولى من العكس .

التالي السابق


الخدمات العلمية