الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجنس الخامس

وهو النظر فيما يحجر فيه على المكاتب مما لا يحجر

وما بقي من أحكام العبد فيه

فنقول : إنه قد أجمع العلماء من هذا الباب على أنه ليس للمكاتب أن يهب من ماله شيئا له قدر ، ولا يعتق ولا يتصدق بغير إذن سيده ، فإنه محجور عليه في هذه الأمور وأشباهها ( أعني : أنه ليس له أن يخرج من يده شيئا من غير عوض ) ، واختلفوا من هذا الباب في فروع :

منها : أنه إذا لم يعلم السيد بهبته أو بعتقه إلا بعد أداء كتابته ، فقال مالك وجماعة من العلماء : إن ذلك نافذ ومنعه بعضهم .

وعمدة من منعه أن ذلك وقع في حالة لا يجوز وقوعه فيها فكان فاسدا . وعمدة من أجازه أن السبب المانع من ذلك قد ارتفع وهو مخافة أن يعجز العبد .

وسبب اختلافهم هل إذن السيد من شرط لزوم العقد أو من شرط صحته ؟ فمن قال من شرط الصحة لم يجزه وإن عتق ، ومن قال من شرط لزومه قال : يجوز إذا عتق ; لأنه وقع عقدا صحيحا ، فلما ارتفع الإذن المرتقب فيه صح العقد كما لو أذن .

هذا كله عند من أجاز عتقه إذا أذن السيد ، فإن الناس اختلفوا أيضا في ذلك بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز عتقه إذا لم يأذن السيد ، فقال قوم : ذلك جائز ، وقال قوم : لا يجوز ، وبه قال أبو حنيفة ، وبالجواز قال مالك ، وعن الشافعي في ذلك القولان جميعا .

والذين أجازوا ذلك اختلفوا في ولاء المعتق لمن يكون ، فقال مالك : إن مات المكاتب قبل أن يعتق كان ولاء عبده لسيده ، وإن مات وقد عتق المكاتب كان ولاؤه له . وقال قوم من هؤلاء : بل ولاؤه على كل حال لسيده .

وعمدة من لم يجز عتق المكاتب أن الولاء يكون للمعتق ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إنما الولاء لمن أعتق " ولا ولاء للمكاتب في حين كتابته فلم يصح عتقه .

وعمدة من رأى أن الولاء للسيد أن عبد عبده بمنزلة عبده ، ومن فرق بين ذلك فهو استحسان .

ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن ينكح أو يسافر بغير إذن سيده ؟ فقال جمهورهم : ليس له أن ينكح إلا بإذن سيده ، وأباح بعضهم النكاح له . وأما السفر فأباحه له جمهورهم ومنعه بعضهم ، وبه قال مالك ، وأباحه سحنون من أصحاب مالك ، ولم يجز للسيد أن يشترطه على المكاتب ، وأجازه ابن القاسم في السفر القريب .

والعلة في منع النكاح أنه يخاف أن يكون ذلك ذريعة إلى عجزه .

والعلة في جواز السفر أن به يقوى على التكسب في أداء كتابته .

وبالجملة فللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :

أحدها : أن للمكاتب أن يسافر بإذن سيده وبغير إذنه ، ولا يجوز أن يشترط عليه أن لا يسافر ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي .

[ ص: 708 ] والقول الثاني : إنه ليس له أن يسافر إلا بإذن سيده ، وبه قال مالك .

والثالث : أن بمطلق عقد الكتابة له أن يسافر إلا أن يشترط عليه سيده أن لا يسافر ، وبه قال أحمد والثوري وغيرهما .

ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن يكاتب عبدا له ؟ فأجاز ذلك مالك ما لم يرد به المحاباة ، وبه قال أبو حنيفة والثوري ، وللشافعي قولان : أحدهما إثبات الكتابة ، والآخر إبطالها .

وعمدة الجماعة أنها عقد معاوضة المقصود منه طلب الربح فأشبه سائر العقود المباحة من البيع والشراء . وعمدة الشافعية أن الولاء لمن أعتق ولا ولاء للمكاتب ، لأنه ليس بحر .

واتفقوا على أنه لا يجوز للسيد انتزاع شيء من ماله ولا الانتفاع منه بشيء .

واختلفوا في وطء السيد أمته المكاتبة ، فصار الجمهور إلى منع ذلك ، وقال أحمد وداود وسعيد بن المسيب من التابعين : ذلك جائز إذا اشترطه عليها .

وعمدة الجمهور أنه وطء تقع الفرقة فيه إلى أجل آت فأشبه النكاح إلى أجل . وعمدة الفريق الثاني تشبيهها بالمدبرة ، وأجمعوا على أنها إن عجزت حل وطؤها .

واختلف الذين منعوا ذلك إذا وطئها هل عليه حد أم لا ؟ فقال جمهورهم : لا حد عليه ; لأنه وطء بشبهة ، وقال بعضهم : عليه الحد .

واختلفوا في إيجاب الصداق لها ، والعلماء فيما أعلم على أنه في أحكامه الشرعية على حكم العبد مثل الطلاق والشهادة والحد وغير ذلك مما يختص به العبيد .

ومن هذا الباب اختلافهم في بيعه ، فقال الجمهور : لا يباع المكاتب إلا بشرط أن يبقى على كتابته عند مشتريه ، وقال بعضهم : بيعه جائز ما لم يؤد شيئا من كتابته ; لأن بريرة بيعت ولم تكن أدت من كتابتها شيئا ، وقال بعضهم : إذا رضي المكاتب بالبيع جاز ، وهو قول الشافعي ; لأن الكتابة عنده ليست بعقد لازم في حق العبد ، واحتج بحديث بريرة إذ بيعت وهي مكاتبة .

وعمدة من لم يجز بيع المكاتب ما في ذلك من نقض العهد ، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به ، وهذه المسألة مبنية على هل الكتابة عقد لازم أم لا ؟

وكذلك اختلفوا في بيع الكتابة ، فقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لا يجوز ذلك ، وأجازها مالك ورأى الشفعة فيها للمكاتب .

ومن أجاز ذلك شبه بيعها ببيع الدين ، ومن لم يجز ذلك رآه من باب الغرر .

وكذلك شبه مالك الشفعة فيها بالشفعة في الدين ، وفي ذلك أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أعني : في الشفعة في الدين ) ، ومذهب مالك في بيع الكتابة أنها إن كانت بذهب أنها تجوز بعرض معجل لا مؤجل لما يدخل في ذلك من الدين بالدين . وإن كانت الكتابة بعرض كان شراؤها بذهب أو فضة معجلين أو بعرض مخالف ، وإذا أعتق فولاؤه للمكاتب لا للمشتري .

[ ص: 709 ] ومن هذا الباب اختلافهم هل للسيد أن يجبر العبد على الكتابة أم لا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية