الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن أعجب الأشياء احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل، وهم مع افترائهم فيها على التفسير واللغة ، إنما هي حجة عليهم لا لهم ، كما قال [ ص: 76 ] بعضهم في قوله: لا أحب الآفلين [سورة الأنعام : 76] أي :المتغيرين. وربما قال غيره : المتحركين، أو المنتقلين. وقال بعض المتفلسفة المتأخرين : الممكنين ، وأراد بالممكن ما يتناول القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه .

وزعم بعضهم -كالرازي في تفسيره- أن هذا قول المحققين. وهؤلاء من أعظم الناس تحريفا للفظ "الأفول" ولفظ "الإمكان" فإنهم ،وسائر العقلاء، يسلمون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا ما كان معدوما، فأما القديم الأزلي الذي لم يزل، فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم .

ولكن يتناقضون تناقضا بينا، فقالوا: الفلك ممكن يقبل الوجود والعدم ، وهو مع ذلك قديم أزلي .

ثم استعمال لفظ "الأفول" في الممكن الذي يقبل الوجود والعدم من أعظم الكذب على اللغة والتفسير ، فإن المخلوقات الموجودة -كالشمس والقمر والكواكب والآدميين وغيرهم- لا يسمون في حال حضورهم آفلين .

وهؤلاء اجترأوا على ذلك لما جعلت الجهمية وأهل الكلام المحدث المتحرك آفلا، فجعلوا كل متحرك آفلا، وزعموا أن إبراهيم عليه السلام احتج بالحركة على امتناع كون المتحرك رب العالمين، فلما قال هؤلاء هذا، قال أولئك: نحن نجعل كل ما سوى الرب آفلا، فجعلوا السماوات والأرض وكل ما سواه آفلا، وفسروا بذلك القرآن . [ ص: 77 ]

وهذا لا يعرف في لغة العرب: أن الأفول بمعنى التحرك والانتقال ، ولا بمعنى التغير، الذي هو استحالة من صفة إلى صفة، دع ما هو من باب التصرف الذي لا تستحيل فيه الصفات .

وإبراهيم إنما قال: لا أحب الآفلين [سورة الأنعام : 76] ردا لمن كان يتخذ كوكبا يعبده من دون الله ، كما يفعله أهل دعوة الكواكب ، كما كان قومه يفعلون ذلك، لا ردا على من قال: إن الكوكب هو رب العالمين ، فإن هذا لم يقله أحد . لكن قومه كانوا مشركين ، ولو كان إبراهيم مقصوده نفي كون الكوكب رب العالمين ، واحتج على ذلك بالأفول، لكانت حجة عليهم، لأنه لما رأى الكوكب والقمر والشمس بازغة كانت متحركة من حين بزوغها إلى حين غروبها، وهو في تلك الحال لا ينفي عنها المحبة ، كما نفاها حين غابت .

فعلم بذلك أن ما ذكر من التغير والحركة والانتقال لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام ، وإنما نافاه التغيب والاحتجاب . فإن كان مقصوده نفي كونه رب العالمين كان ذلك حجة عليهم لا لهم، وكانوا قد حكوا عن إبراهيم أنه لم يجعل التغير والحركة والانتقال مانعة من كون الموصوف بذلك رب العالمين، فما ذكروه لو صح كان حجة عليهم لا لهم. [ ص: 78 ]

وبكل حال فإبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من حب المتصف بذلك ، كما جعل الأفول مانعا فعلم أن ذلك ليس من صفات النقص التي تنافي كون المتصف بها معبودا عند إبراهيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية