الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما قوله : وروح منه ففيه وجهان ( أحدهما ) : أن معناه أنه مؤيد بروح منه تعالى ، ويوضحه قوله فيه وأيدناه بروح القدس ( 2 : 253 ) وقال في صفات المؤمنين الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كان من ذوي القربى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ( 58 : 22 ) .

                          ( وثانيهما ) : أن معناه أنه خلق بنفخ من روح الله ، وهو جبريل عليه السلام ، ويوضحه قوله - تعالى - في أمه : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ( 21 : 91 ) وقال - تعالى - فيها : فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 19 : 17 ) كما قال في خلق الإنسان بعد ذكر بدئه من طين : ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( 32 : 8 ، 9 ) وقال بعضهم : إن المراد بالروح هنا النفخ أي نفخ الملك بأمر الله في مريم ، فإنه استعمل بمعنى النفخ والنفس الذي ينفخ ، كما قال ذو الرمة في إضرام النار :


                          فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واجعلها لها فيئة قدرا

                          والروح الذي يحيا به الإنسان مأخوذ من اسم الريح ( وأصل الريح روح بالكسر ، فقلبت الواو ياء لتناسب الكسرة ، وجمعه أرواح ، وأصل هذا رواح بالكسر ) كما أن اسم النفس بسكون الفاء من النفس بفتحها .

                          ويجوز أن يراد بقوله تعالى : وروح منه الأمران معا ; أي أنه خلق بنفخ الملك المعبر عنه بالروح وبروح القدس ، في أمه نفخا كان كالتلقيح الذي يحصل باقتران الزوجية ، وكان [ ص: 69 ] مؤيدا بهذا الروح مدة حياته ; ولذلك غلبت عليه الروحانية ، وظهرت آيات الله فيه زمن الطفولية وزمن الرجولية إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ( 5 : 110 ) فلما كان كذلك أطلق عليه أنه روح كأنه هو عين ذلك الملك الذي جعله الله سبب ولادته وأيده به مدة حياته ، كما يقال : " رجل عدل " على سبيل المبالغة والمراد : ذو عدل ، وقال بعض المفسرين : إن المراد بالروح هنا : الرحمة ، كقوله - تعالى - في المؤمنين : وأيدهم بروح منه ( 58 : 22 ) ويقويه قوله - تعالى - فيه ولنجعله آية للناس ورحمة منا ( 19 : 21 ) ويمكن إدخال هذا المعنى في الوجه الأول ; لأنه من فروعه ، والمعنى الجامع أن الروح ما به الحياة . والحياة قسمان : حسية ومعنوية ; فالأولى : ما يشعر به الإنسان ويدرك ويتفكر ويتذكر ، والثانية : ما به يكون رحيما حكيما فاضلا محبا محبوبا نافعا للخلق ، وقد سمى الله الوحي روحا فقال لخاتم رسله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ( 42 : 52 ) وقال : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ( 16 : 2 ) وكلا المعنيين متحقق في عيسى ، عليه السلام ، على وجه الكمال ، فلهذا جوزنا الوجهين في المسألة .

                          وآية الله - تعالى - في خلق عيسى بكلمته ، وجعله بشرا سويا بما نفخ فيه من روحه ، كآيته في خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه ; إذ كان خلق كل منهما بغير السنة العامة في خلق الناس من ذكر وأنثى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( 3 : 59 ) .

                          وقد علم مما قررناه أن قوله : منه متعلق بمحذوف ، صفة لـ روح أي وروح كائنة منه ، وزعم بعض النصارى أن " من " للتبعيض ، وأن عيسى جزء من الله ، بمعنى أنه ابنه ، ونقل المفسرون أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى ، عليه السلام ، جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية ، فقرأ له الواقدي قوله ، تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ( 45 : 13 ) وقال : يلزم إذا أن تكون جميع هذه الأشياء أجزاء منه تبارك وتعالى ، فانقطع النصراني وأسلم ، ففرح الرشيد بإسلامه ، ووصل الواقدي بصلة فاخرة .

                          أما أناجيل النصارى وكتبهم فقد استعملت لفظ الروح في معان مختلفة فيما يتعلق بالمسيح وفي غير ما يتعلق به ، فمن ذلك قول متى : ( 1 : 18 أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا ، لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف ، قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس ) وفي الفصل الأول من إنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها ، وتبشيره إياها بولد ، ومحاورتهما في ذلك ، ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها : ( 53 الروح القدس يحل عليك ) فروح [ ص: 70 ] القدس ليس هو الله ، ومن يؤيده الله به لا يكون إلها ، ففي هذا الفصل نفسه من إنجيل لوقا أن ( اليصابات ) أم يحيى امتلأت من الروح القدس ( 41 ) وبذلك حملت بيحيى وكانت عاقرا ، وأن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس ( 67 ) وفي الفصل الثاني منه ما نصه : " 25 وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان ، وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه ( 26 ) وكان قد أوحي إليه بالروح القدس " وهذا الاستعمال كثير عندهم لا حاجة لإضاعة الوقت بكثرة إيراد الشواهد فيه ، وإنما نقول : إن روح القدس عندهم وعندنا واحد ، وهو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصي عددهم غيره تعالى ، والقدس : الطهر ، ويذكر في مقابله في الأناجيل الروح النجس ، أي : الشيطان ، فجعلوه إلها كما فعل الوثنيون من قبل .

                          وجملة القول أن هذه الأناجيل تدل على ما ذكرناه آنفا من كون عيسى خلق بواسطة روح القدس ، وأن يحيى خلق كذلك وكان خلقه آية من وجه آخر ، إذ كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا ، ولكن الواسطة والسبب واحد ، وهو الملك المسمى بروح القدس ، أيدهم الله به نساء ورجالا عليهم السلام ، فمن الحماقة أن يقول قائل مع هذا : إن قوله تعالى وروح منه يفيد أنه جزء من الله - تعالى - جل شأنه عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه ، بل يقولون : إن تلاميذ المسيح أنفسهم كانوا مؤيدين بروح القدس حتى من طرده المسيح ولعنه منهم وسماه شيطانا ، وقد أيد به من كان دونهم أيضا .

                          علمنا أن مؤلفي الأناجيل يستعملون كلمة روح القدس استعمالا يدل على أنه ملك من خلق الله ، ولكن يوحنا قد انفرد بعبارات يمكن إرجاعها إلى استعمال غيره ، ويمكن تحريفها للاستدلال بها على شيء آخر كما فعلوا ، فهم يقولون : إن الروح منبثق من الآب وإنه عين الآب ، ويستدلون على ذلك بقول يوحنا حكاية عن المسيح : ( 15 : 16 ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق من عند الآب ينبثق ، فهو يشهد لي ) أصل الانبثاق : أن يكسر الماء ما أمامه من سد على الشط ، ويفيض على ما وراءه ، وفي قراءة أخرى في ترجمة البروتستانت " يخرج " فمن هذه الكلمة استنبطوا عقيدة وثنية تنقضها نصوص كثيرة في الأناجيل .

                          وهذه الجملة خبر عن شيء يكون في المستقبل ( وفرق بين ينبثق من عنده وبين انبثق منه على أن هذه لا تدل على ما زعموا أيضا ) وهي بشارة من المسيح بمن يرسله الله - تعالى - بعده الذي عبروا عنه هنا بالمعزي ، وكلمة المعزي ترجمة للبارقليط ، وهي كلمة يونانية معناها ( محمد أو أحمد ) وتقرأ بالاستقامة وبالإمالة ، فلا يحتاج في تحريفها عن المعنى الذي [ ص: 71 ] قلناه إلى معنى المعزي الذي قالوه ، إلا إلى لي اللسان بها ليا قليلا ، وقد ترجمت في إنجيل برنابا ( بمحمد ) فكانت هذه الترجمة موضع الاستغراب عند كثير من الناس ظانين أن برنابا نقل عن المسيح أنه نطق بكلمة محمد العربية ، والظاهر أنه نطق بترجمتها ، ومن عادة أهل الكتاب ترجمة الأعلام والألقاب ، على أن " روح الحق " من جملة أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم ، كما ترى في أسمائه المسرودة في دلائل الخيرات . وقد بين يوحنا في الفصل السادس عشر من إنجيله تفصيلا عن المسيح ، عليه السلام ، لبشارته بالبارقليط ، منه أنه خير لهم أن يذهب هو من الدنيا ; لأنه إذا لم يذهب لا يأتي البارقليط ، وأنه متى جاء يبكت العالم على الخطيئة وعلى البر والحساب ( الدينونة ) وفسر الخطيئة بعدم الإيمان به ، أي المسيح ، ومنه أنه هو - أي المسيح - لا يستطيع أن يقول لهم كل شيء ; لعدم استعدادهم وعدم طاقتهم الاحتمال ، قال : وأما متى جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ; لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ( 14 ) ذاك يمجدني ; لأنه يأخذ مما لي ويخبركم . ولم يجئ بعد المسيح أحد من عند الله وبخ الناس وبكتهم على عدم الإيمان بالمسيح وعلى طعن بعضهم فيه وفي أمه ، وعلى غلو طائفة فيهما وجعلهما إلهين مع الله ، وعلم الناس كل شيء من أمور العقائد والآداب والفضائل والأحكام الشخصية والمدنية ، وأخبر بالأمور المستقبلية - لم يجئ أحد بكل هذا إلا روح الحق محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو منبثق من الله أي مرسل منه لإحياء الناس ، كما يرسل الله الغيث لإحياء الأرض ، وفي الحديث أنه شبه بعثته بالغيث الذي تأخذ منه كل أرض بحسب استعدادها . فإذا كانت عبارة يوحنا تدل على أن روح الحق الذي بشر به المسيح ، وأنه يأتي بعده تدل بلفظ الانبثاق على ما قالوا ، فليجعلوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو الأقنوم الثالث أو أقنوما رابعا ، وينتقلوا من التثليث إلى التربيع ، لا ، لا أقول لهم أصروا على هذا التأويل والتضليل ، بل أقول لهم ما قاله الله عز وجل : لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إلى قوله ، تعالى :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية