الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 300 ] القول في تأويل قوله : ( قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ( 246 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله : " هل عسيتم " هل تعدون " إن كتب " يعني : إن فرض عليكم القتال " ألا تقاتلوا " يعني : أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم من الجهاد في سبيله ، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون ؟ " قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " يعني : قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك : وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " بالقهر والغلبة؟ .

فإن قال لنا قائل : وما وجه دخول " أن " في قوله : " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " وحذفه من قوله : ( وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم ) ؟ [ سورة الحديد : 8 ]

قيل : هما لغتان فصيحتان للعرب : تحذف " أن " مرة مع قولها : " ما لك " فتقول : " ما لك لا تفعل كذا " بمعنى : ما لك غير فاعله ، كما قال الشاعر :


ما لك ترغين ولا ترغو الخلف

[ ص: 301 ]

وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته ؛ لفشو ذلك على ألسن العرب .

وتثبت " أن " فيه أخرى ، توجيها لقولها : " ما لك " إلى معناه ، إذ كان معناه : ما منعك ؟ كما قال - تعالى ذكره - : ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) [ سورة الأعراف : 12 ] ثم قال في سورة أخرى في نظيره : ( ما لك ألا تكون مع الساجدين ) [ سورة الحجر : 32 ] ، فوضع " ما منعك " موضع " ما لك " " وما لك " موضع " ما منعك " لاتفاق معنييهما ، وإن اختلفت ألفاظهما ، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه ، كما قال الشاعر :


يقول إذا اقلولى عليها وأقردت :     ألا هل أخو عيش لذيذ بدايم ؟

[ ص: 302 ] فأدخل في "دائم " " الباء " مع " هل " وهي استفهام . وإنما تدخل في خبر " ما " التي في معنى الجحد ، لتقارب معنى الاستفهام والجحد .

وكان بعض أهل العربية يقول : أدخلت " أن " في : " ألا تقاتلوا " لأنه بمعنى قول القائل : ما لك في ألا تقاتل . ولو كان ذلك جائزا لجاز أن يقال : " ما لك أن قمت وما لك أنك قائم " وذلك غير جائز ؛ لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال كما يقال : " منعتك أن تقوم " ولا يقال : " منعتك أن قمت " فلذلك قيل في " ما لك " : " ما لك ألا تقوم " ولم يقل : " ما لك أن قمت " .

وقال آخرون منهم : " أن " ها هنا زائدة بعد " ما لنا " كما تزاد بعد " لما " " ولو " وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا . قال : ومعناه : وما لنا لا نقاتل في سبيل الله ؟ فأعمل " أن " وهي زائدة . وقال الفرزدق :


لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها     إذن للام ذوو أحسابها عمرا

[ ص: 303 ]

والمعنى : لو لم تكن غطفان لها ذنوب " ولا " زائدة فأعملها .

وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه آخرون . وقالوا : غير جائز أن تجعل " أن " زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة . قالوا : والمعنى ما يمنعنا ألا نقاتل - فلا وجه لدعوى مدع أن " أن " زائدة ، معنى مفهوم صحيح . قالوا : وأما قوله :


لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها

[ ص: 304 ]

فإن " لا " غير زائدة في هذا الموضع ؛ لأنه جحد ، والجحد إذا جحد صار إثباتا . قالوا : فقوله : " لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها " إثبات الذنوب لها ، كما يقال : " ما أخوك ليس يقوم " بمعنى : هو يقوم .

وقال آخرون : معنى قوله : " ما لنا ألا نقاتل " : ما لنا ولأن لا نقاتل ، ثم حذفت " الواو " فتركت ، كما يقال في الكلام : " ما لك ولأن تذهب إلى فلان " فألقي منها " الواو " ؛ لأن " أن " حرف غير متمكن في الأسماء . وقالوا : نجيز أن يقال : " ما لك أن تقوم " ولا نجيز : " ما لك القيام " ؛ لأن القيام اسم صحيح " وأن " اسم غير صحيح . وقالوا : قد تقول العرب : " إياك أن تتكلم " بمعنى : إياك وأن تتكلم .

وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا : لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله لوجب أن يكون جائزا : " ضربتك بالجارية وأنت كفيل " بمعنى : وأنت كفيل بالجارية ، وأن تقول : " رأيتك إيانا وتريد " بمعنى : " رأيتك وإيانا تريد " ؛ لأن العرب تقول : " إياك بالباطل تنطق " . قالوا : فلو كانت " الواو " مضمرة في " أن " لجاز جميع ما ذكرنا ، ولكن ذلك غير جائز ؛لأن ما بعد " الواو " من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها ، واستشهدوا على فساد قول من زعم أن " الواو " مضمرة مع " أن " بقول الشاعر :


فبح بالسرائر في أهلها     إياك في غيرهم أن تبوحا

[ ص: 305 ]

وأن " أن تبوحا " لو كان فيها " واو " مضمرة ، لم يجز تقديم " في غيرهم " عليها .

وأما تأويل قوله تعالى : " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فإنه يعني : وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم ، ومن سبي . وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص ؛ لأن الذين قالوا لنبيهم : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " كانوا في ديارهم وأوطانهم ، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم .

وأما قوله : " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم " يقول : فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله " تولوا إلا قليلا منهم " يقول : أدبروا مولين عن القتال ، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد .

والقليل الذي استثناهم الله منهم ، هم الذين عبروا النهر مع طالوت . وسنذكر سبب تولي من تولى منهم ، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله ، إذا أتينا عليه .

يقول الله - تعالى ذكره - : " والله عليم بالظالمين " يعني : والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه ، فأخلف الله ما وعده من نفسه ، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه .

وهذا من الله - تعالى ذكره - تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تكذيبهم نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ومخالفتهم أمر ربهم . يقول الله - تعالى ذكره - لهم : إنكم يا معشر اليهود ، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء ، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه [ ص: 306 ] فيه ، فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه - أحرى .

وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه ؛ وذلك أن معنى الكلام : " قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله ، فبعث لهم ملكا ، وكتب عليهم القتال " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين " .

التالي السابق


الخدمات العلمية