الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون

                                                          (بل) هنا للإضراب والرد على ما يتمنونه، والغاية التي يريدونها، والمعنى أن أولئك لا يتمنون الذي يتمنونه لأجل الهداية، بل ذلك لهول ما يرون والفزع لما يستقبلهم، ولأنه بدا لهم الأمر الذي كانوا يخفونه، ويصح أن يكون الإضراب هنا للانتقال من مقام تمنيهم إلى مقام آخر، وهو بيان أنهم لو عادوا في الدنيا وخلقت فيهم الشهوات والأهواء وعبثت بهم، واستولت عليهم لعادوا لما نهوا عنه.

                                                          وما الذي بدا لهم وكانوا يخفونه من قبل؟ اختلف المفسرون على آراء كلها محتملة، وهي تنتهي إلى رأيين:

                                                          أولهما: ما كانوا يخفونه في طوايا نفوسهم وأعمالهم في الدنيا قد بدا عيانا لهم، وأحسوا فيه بقبح ما فعلوا، فبدا لهم ما كانوا يخفون من مفاسد، وبدا أن كفرهم ليس لنقص في الاستدلال، ولكن لعناد، ولإعراض بدا لهم ما كانوا عليه من عنجهية جاهلية، وأنها جوفاء في الآخرة، وأنها التي دفعتهم إلى الكفر، وليس نقص الدليل، وبدا لهم أن إعراضهم عن الآيات لم يكن لنقصها، ولكن لنقص في نفوسهم وإذعانهم.

                                                          [ ص: 2477 ] التأويل الثاني: أن الذي بدا لهم هو عذاب الآخرة، وهولها، وشدائدها، وقد كانوا ينكرونها، فظهر ما كانوا يجحدون، ولكن كيف يكون ذلك قد أخفوه، وهل الإنكار المعلن إخفاء؟ والجواب عن ذلك أن الفطرة الإنسانية توجب التصديق إذا قام الدليل، وأن المعاندة حيث قام الدليل إخفاء لما يقتضيه، وقد قال تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم

                                                          فجحودهم كان إخفاء لموجبات الإيمان، وأن شهوة السلطان والعصبية، وغلبة الدنيا والفساد عليهم جعل الحق يختفي عليهم، ويخفونه هم بالمعاندة والمكابرة، والمماراة، فلما كانت الآخرة، وكانت القيامة بأهوالها بدا ما كان مختفيا، وأخفت الأهواء والمعابث، وظهرت الحقائق، وأحسب أن المعنيين مستقيمان، ولا مانع من جمعهما، فالنص يعمهما.

                                                          ولقد ادعوا في تمنياتهم أنهم يعودون ليكونوا في ضمن المؤمنين، ولا يكذبوا بآيات ربهم الذي خلقهم وكونهم وحماهم، فبين سبحانه أنهم لو ردوا إلى الدنيا بزخارفها وعصبياتها، وأهوائهم وشهواتهم، وحب الغلب لعادوا لما نهوا عنه من الإعراض عن الآيات، والمكابرات في المعجزات، والاستهانة بالإيمان والمؤمنين، ووقعوا في كل المخابث التي كانت منهم؛ وذلك لأن السبب في الجحود هو سيطرة الهوى والشهوة والعصبية الجاهلية، فإن عادوا إلى الدنيا بمتعها البراقة فسيستولي عليهم بريقها، ويكون منهم ما كان أولا.

                                                          ولقد أكد الله سبحانه كذبهم في أمنياتهم ونتائج تمنياتهم فقال: وإنهم لكاذبون والكذب هنا خاص بما يمكن أن يقع منهم، وما أرادوا في تمنيهم الأماني، فتمنياتهم كاذبة لا يمكن أن تحقق، ولو عادوا لكان منهم ما وقع أولا; إذ إنهم يعودون بما كانوا يحملون من ركائز في نفوسهم، فالتكذيب لما يكون منهم في المستقبل، وقد أكد سبحانه تكذيبهم بـ: "أن" وبالجملة الاسمية، وباللام المؤكدة.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية