الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : البسملة آية من القرآن

              البسملة آية من القرآن .

              لكنه هل هي آية من أول كل سورة ؟ فيه خلاف ، وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من كل سورة الحمد وسائر السور ، لكنها في أول كل سورة آية برأسها . وهي مع أول آية من سائر السور آية ، هذا مما نقل عن الشافعي رحمه الله ، فيه تردد وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة ، بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن .

              فإن قيل : القرآن لا يثبت إلا بطريق قاطع متواتر ، فإن كان هذا قاطعا فكيف اختلفوا فيه ؟ وإن كان مظنونا فكيف يثبت القرآن بالظن ؟ ولو جاز هذا لجاز إيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين بقول ابن مسعود ، ولجاز للروافض أن يقولوا قد ثبتت إمامة علي رضي الله عنه بنص القرآن ونزلت فيه آيات أخفاها الصحابة بالتعصب . وإنما طريقنا في الرد عليهم أنا نقول : نزل القرآن معجزة للرسول عليه السلام وأمر الرسول عليه السلام بإظهاره مع قوم تقوم الحجة بقولهم وهم أهل التواتر ، فلا يظن بهم التطابق على الإخفاء ولا مناجاة الآحاد به حتى لا يتحدث أحد بالإنكار ، فكانوا يبالغون في حفظ القرآن حتى كانوا يضايقون في الحروف ويمنعون من كتبة أسامي السور مع القرآن ومن التعاشير والنقط كي لا يختلط بالقرآن غيره ، فالعادة تحيل الإخفاء فيجب أن يكون طريق ثبوت القرآن القطع .

              وعن هذا المعنى قطع القاضي رحمه الله بخطإ من جعل البسملة من القرآن إلا في سورة النمل ، فقال لو كانت من القرآن لوجب على الرسول عليه السلام أن يبين أنها من القرآن بيانا قاطعا للشك والاحتمال . إلا أنه قال : أخطئ القائل به ولا أكفره ، لأن نفيها من القرآن لم يثبت أيضا بنص صريح متواتر فصاحبه مخطئ وليس بكافر واعترف بأن البسملة منزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة وأنها كتبت مع القرآن بخط القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن عباس رضي الله عنه : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم } لكنه لا يستحيل أن ينزل عليه ما ليس بقرآن .

              وأنكر قول من نسب عثمان رضي الله عنه إلى البدعة في كتبه " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول كل سورة وقال لو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه مع تصلبهم في الدين ، كيف وقد أنكروا على من أثبت أسامي السور والنقط والتعشير ؟ فما بالهم لم يجيبوا بأنا أبدعنا ذلك كما أبدع عثمان رضي الله عنه كتبة البسملة لا سيما واسم السور يكتب بخط آخر متميز عن القرآن ، والبسملة مكتوبة بخط القرآن متصلة به بحيث لا تتميز عنه ؟ فتحيل العادة السكوت على من يبدعها لولا أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب أنا نقول : لا وجه لقطع القاضي بتخطئة الشافعي رحمه الله ، لأن إلحاق ما ليس بقرآن بالقرآن كفر ، كما أنه من ألحق القنوت أو التشهد أو التعوذ بالقرآن فقد كفر .

              فمن ألحق البسملة لم لا يكفر ، ولا سبب له إلا أنه يقال لم يثبت انتفاؤه من القرآن بنص متواتر ؟ فنقول لو لم يكن من القرآن لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعة ذلك على وجه يقطع الشك كما في التعوذ والتشهد .

              فإن قيل : ما ليس من القرآن لا حصر له حتى ينفى إنما الذي يجب التنصيص عليه ما هو [ ص: 83 ] من القرآن .

              قلنا : هذا صحيح لو لم تكتب البسملة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن بخط القرآن ، ولو لم يكن منزلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة ، وذلك يوهم قطعا أنه من القرآن . ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف كونه موهما ولا جواز السكوت عن نفيه مع توهم إلحاقه ، فإذا القاضي رحمه الله يقول لو كان من القرآن لقطع الشك بنص متواتر تقوم الحجة به ، ونحن نقول لو لم يكن من القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعته ، ولنفاه بنص متواتر بعد أن أمر بكتبه بخط القرآن ، إذ لا عذر في السكوت عن قطع هذا التوهم .

              فأما عدم التصريح بأنه من القرآن فإنه كان اعتمادا على قرائن الأحوال ، إذ كان يملي على الكاتب مع القرآن { كان الرسول عليه السلام في أثناء إملائه لا يكرر مع كل كلمة وآية أنها من القرآن ، بل كان جلوسه له وقرائن أحواله تدل عليه وكان يعرف كل ذلك قطعا . ثم لما كانت البسملة أمر بها في أول كل أمر ذي بال ووجد ذلك في أوائل السور } ظن قوم أنه كتب على سبيل التبرك وهذا الظن خطأ ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما ترك بعضهم البسملة في أول السورة فقطع بأنها آية ولم ينكر عليه كما ينكر على من ألحق التعوذ والتشهد بالقرآن ، فدل على أن ذلك كان مقطوعا به وحدث الوهم بعده .

              فإن قيل : بعد حدوث الوهم والظن صارت البسملة اجتهادية وخرجت عن مظنة القطع ، فكيف يثبت القرآن بالاجتهاد ؟ قلنا : جوز القاضي رحمه الله الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها ، وأقر بأن ذلك منوط باجتهاد القراء وأنه لم يبين بيانا شافيا قاطعا للشك ، والبسملة من القرآن في سورة النمل هي مقطوع بكونها من القرآن ، وإنما الخلاف في أنها من القرآن مرة واحدة أو مرات كما كتبت ، فهذا يجوز أن يقع الشك فيه ، ويعلم بالاجتهاد ; لأنه نظر في تعيين موضع الآية بعد كونها مكتوبة بخط القرآن فهذا جائز وقوعه .

              والدليل على إمكان الوقوع وأن الاجتهاد قد تطرق إليه ، أن النافي لم يكفر الملحق والملحق لم يكفر النافي بخلاف القنوت والتشهد ، فصارت البسملة نظرية ، وكتبها بخط القرآن مع القرآن مع صلابة الصحابة وتشددهم في حفظ القرآن عن الزيادة قاطع أو كالقاطع في أنها من القرآن . فإن قيل : فالمسألة صارت نظرية وخرجت عن أن تكون معلومة بالتواتر علما ضروريا فهي قطعية أو ظنية . قلنا : الإنصاف أنها ليست قطعية بل هي اجتهادية ، ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف فيها في زمان الصحابة رضي الله عنهم حتى قال ابن عباس رضي الله عنه سرق الشيطان من الناس آية ولم يكفر بإلحاقها بالقرآن ولا أنكر عليه .

              ونعلم أنه لو نقل الصديق رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال البسملة من سورة الحمد وأوائل السور المكتوبة معها لقبل ذلك بسبب كونها مكتوبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو نقل أن القنوت من القرآن ، لعلم بطلان ذلك بطريق قاطع لا يشك فيه وعلى الجملة إذا أنصفنا وجدنا أنفسنا شاكين في مسألة البسملة قاطعين في مسألة التعوذ والقنوت ، وإذا نظرنا في كتبها مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سكوته عن التصريح بنفي كونها من القرآن بعد تحقق سبب الوهم [ ص: 84 ] كان ذلك دليلا ظاهرا كالقطع في كونها من القرآن ، فدل أن الاجتهاد لا يتطرق إلى أصل القرآن ، أما ما هو من القرآن وهو مكتوب بخطه فالاجتهاد فيه يتطرق إلى تعيين موضعه وأنه من القرآن مرة أو مرات .

              وقد أوردنا أدلة ذلك في كتاب حقيقة القرآن وتأويل ما طعن به على الشافعي رحمه الله من ترديده القول في هذه المسألة . فإن قيل : قد أوجبتم قراءة البسملة في الصلاة وهو مبني على كونها قرآنا ، وكونها قرآنا لا يثبت بالظن ، فإن الظن علامة وجوب العمل في المجتهدات ، وإلا فهو جهل أي ليس بعلم ، فليكن كالتتابع في قراءة ابن مسعود قلنا وردت أخبار صحيحة صريحة في وجوب قراءة البسملة ، وكونها قرآنا متواترا معلوم وإنما المشكوك فيه أنها قرآن مرة في سورة النمل أو مرات كثيرة في أول كل سورة ، فكيف تساوي قراءة ابن مسعود ولا يثبت بها القرآن ولا هي خبر ؟ وههنا صحت أخبار في وجوب البسملة وصح بالتواتر أنها من القرآن وعلى الجملة فالفرق بين المسألتين ظاهر .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية