الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8361 ) فصل : في اللعب : كل لعب فيه قمار ، فهو محرم ، أي لعب كان ، وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه ، ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته . وما خلا من القمار ، وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ، ولا من أحدهما ، فمنه ما هو محرم ، ومنه ما هو مباح ; فأما المحرم فاللعب بالنرد . وهذا قول أبي حنيفة ، وأكثر أصحاب الشافعي . وقال بعضهم : هو مكروه ، غير محرم . ولنا ، ما روى أبو موسى ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من لعب بالنردشير ، فقد عصى الله ورسوله } . وروى بريدة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من لعب بالنردشير ، فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه } . رواهما أبو داود . وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير ، لم يسلم عليهم . إذا ثبت هذا ، فمن تكرر منه اللعب به ، لم تقبل شهادته ، سواء لعب به قمارا أو غير قمار . وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك ، وظاهر مذهب الشافعي . قال مالك : من لعب بالنرد والشطرنج ، فلا أرى شهادته طائلة ; لأن الله تعالى قال : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . وهذا ليس من الحق ، فيكون من الضلال .

                                                                                                                                            ( 8362 ) فصل : فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم ، إلا أن النرد آكد منه في التحريم ; لورود النص في تحريمه ، لكن هذا في معناه ، فيثبت فيه حكمه ، قياسا عليه . وذكر القاضي أبو الحسين ممن ذهب إلى تحريمه ; علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب [ ص: 172 ] والقاسم وسالما ، وعروة ، ومحمد بن علي بن الحسين ، ومطرا الوراق ، ومالكا . وهو قول أبي حنيفة . وذهب الشافعي إلى إباحته .

                                                                                                                                            وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير . واحتجوا بأن الأصل الإباحة ، ولم يرد بتحريمها نص ، ولا هي في معنى المنصوص عليه ، فتبقى على الإباحة . ويفارق الشطرنج النرد من وجهين ; أحدهما ، أن في الشطرنج تدبير الحرب ، فأشبه اللعب بالحراب ، والرمي بالنشاب ، والمسابقة بالخيل . والثاني ، أن المعول في النرد ما يخرجه الكعبتان ، فأشبه الأزلام ، والمعول في الشطرنج على حذقه وتدبيره ، فأشبه المسابقة بالسهام . ولنا ، قول الله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } .

                                                                                                                                            قال علي رضي الله عنه : الشطرنج من الميسر . ومر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) . قال أحمد : أصح ما في الشطرنج ، قول علي رضي الله عنه . وروى واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الله عز وجل ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، ليس لصاحب الشاه فيها نصيب } . رواه أبو بكر بإسناده . ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ، فأشبه اللعب بالنرد .

                                                                                                                                            وقولهم : لا نص فيها . قد ذكرنا فيها نصا ، وهي أيضا في معنى النرد المنصوص على تحريمه . وقولهم : إن فيها تدبير الحرب . قلنا : لا يقصد هذا منها ، وأكثر اللاعبين بها إنما يقصدون منها اللعب أو القمار . وقولهم : إن المعول فيها على تدبيره . فهو أبلغ في اشتغاله بها ، وصدها عن ذكر الله والصلاة . إذا ثبت هذا ، فقال أحمد : النرد أشد من الشطرنج . وإنما قال ذلك ; لورود النص في النرد ، والإجماع على تحريمها ، بخلاف الشطرنج .

                                                                                                                                            وإذا ثبت تحريمها ، فقال القاضي : هو كالنرد في رد الشهادة به . وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة ; لأنه محرم مثله . وقال أبو بكر : إن فعله من يعتقد تحريمه ، فهو كالنرد في حقه ، وإن فعله من يعتقد إباحته ، لم ترد شهادته ، إلا أن يشغله عن الصلاة في أوقاتها ، أو يخرجه إلى الحلف الكاذب ، ونحوه من المحرمات ، أو يلعب بها على الطريق ، أو يفعل في لعبه ما يستخف به من أجله ، ونحو هذا ، مما يخرجه عن المروءة . وهذا مذهب الشافعي ; وذلك لأنه مختلف فيه ، فأشبه سائر المختلف فيه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية