الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والرد إلى كتاب الله وسنة رسوله واجب، فإن وجد ذلك الحكم في كتاب الله، أخذ به، فإن لم يوجد فيه، ففي سنة رسوله، فإن لم يوجد فيها، فسبيله الاجتهاد، ولا يلتفت عند وجود الحكم فيهما، أو في أحدهما إلى [ ص: 126 ] غيرهما من آراء الرجال وغيرهم، فإنه مشاقة لله ولرسوله، من بعد ما تبين له الهدى.

وفي قوله: إن كنتم تؤمنون دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين، وأنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر .

وفي الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب متابعة الكتاب والسنة، والحكم بالنصوص القرآنية، والأدلة الحديثية الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يكون مؤمنا بالله، ولا باليوم الآخر.

ومن لم يكن مؤمنا بهما، فليس من المسلمين، بل من المشركين الكافرين الضالين، وإن زعم أنه مسلم، أو زعمه الناس مسلما.

ذلك أي: الرد المأمور به خير وأحسن تأويلا [59] أي: خير مرجعا، وأحمد عاقبة من الأول.

يقال: آل يؤول إلى كذا; أي: صار إليه.

والمعنى: أن ذلك الرد خير لكم في حد ذاته، من غير اعتبار فضله على شيء يشاركه في أصل الخيرية; من التنازع، والقول بالرأي، وأحسن ما ترجعون إليه.

ويجوز أن يكون المعنى: إن الرد أحسن تأويلا من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع.

وقال قتادة: ذلك أحسن ثوابا، وخير عاقبة. وقال مجاهد: أحسن جزاء.

قال في "فتح البيان": وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء، ثابتة في "الصحيحين" وغيرهما، مقيدة بأن يكون ذلك في المعروف، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله. انتهى.

وقد استدل بهذه الآية على أن أصول الشرع أربعة: 1- الكتاب. 2- والسنة. 3- والإجماع. 4- والقياس.

[ ص: 127 ] وتقرير ذلك مرقوم في "الفتح" وغيره. وفيه نظر; لأن الثابت المتقرر في موضعه من أصول الدين اثنان لا ثالث لهما ولا رابع، وهما: 1- القرآن. 2- والحديث.

وأما الإجماع: ففي إمكانه، ثم في ثبوته، ثم في حجيته اختلاف بين أهل العلم.

والراجح إمكانه في نفسه، وعدم ثبوته في الخارج، وعدم حجيته لذلك، وبه قال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل، ومن تبعه، وهو الحق.

وأما القياس: فهو من وادي الاعتبار، لا من باب الاحتجاج إن كان جليا واضحا.

والنزاع في تعديد هذه الأصول، وبيان أدلتها يطول جدا، وموضعه كتب علم "أصول الفقه" وقد قضى الوطر العلامة الشوكاني في "إرشاد الفحول" وغيره، وغيره في "حصول المأمول" و"الطريقة المثلى" و"الإقليد" ونحوها مما ألف في هذا الباب، فراجعها تجدها شافية كافية وافية -إن شاء الله تعالى- إن كنت من المتلبسين بالإنصاف، الناكبين عن الاعتساف، وإلا فكفى بالله حسيبا.

وما أحسن تحرير القاضي الإمام الشوكاني -رحمه الله- في كتابه "شرح الصدور في تحريم رفع القبور" المتعلق بهذا المقام، قال -رضي الله عنه-:

اعلم إذا وقع الخلاف بين المسلمين في كون هذا الشيء بدعة أو غير بدعة، أو مكروها أو غير مكروه، أو محرما أو غير محرم، أو غير ذلك، فقد اتفق المسلمون سلفهم وخلفهم، من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا، وهو القرن الثالث عشر منذ البعثة المحمدية: أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة المجتهدين، هو الرد إلى كتاب الله سبحانه، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الناطق بذلك الكتاب العزيز: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ومعنى الرد إلى الله سبحانه: الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله: الرد إلى سنته بعد موته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين.

فإذا قال مجتهد من المجتهدين: هذا حلال، وقال الآخر: هذا حرام، فليس [ ص: 128 ] أحدهما أولى بالحق من الآخر، وإن كان أكثر منه علما، أو أكبر منه سنا، أو أقدم منه عصرا; لأن كل واحد منهما فرد من أفراد عباد الله، متعبد بما في الشريعة المطهرة في كتاب الله وسنة رسوله، ومطلوب منه ما طلب الله من غيره من العباد.

وكثرة علمه، وبلوغه درجة الاجتهاد، أو مجاوزته لها، لا يسقط عنه شيئا من الشرائع التي شرعها لعباده، ولا يخرجه من جملة المتكلفين من العباد.

بل العالم، كلما ازداد علما، كان تكليفه زائدا على تكليف غيره، ولو لم يكن من ذلك إلا ما أوجبه الله عليه في البيان للناس، كما كلفه به من الصدع بالحق وإيضاح ما شرعه الله لعباده وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه [آل عمران: 187] إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة: 159].

فلو لم يكن لمن رزقه الله طرفا من العلم إلا كونه مكلفا بالبيان للناس، لكان كافيا فيما ذكرناه، من كون العلماء لا يخرجون عن دائرة التكليف، بل يزيدون بما علموه تكليفا.

وإذا أذنبوا، كان ذنبهم أشد من ذنب الجاهل، وأكثر عقابا; كما حكاه الله سبحانه عمن عمل سوءا بجهالة، ومن عمله بعلم، وكما حكاه في كثير من الآيات عن علماء اليهود، حيث أقدموا على مخالفة ما شرعه الله لهم، مع كونهم يعلمون الكتاب، ويدرسونه، ونعى ذلك عليهم في مواضع متعددة، وبكتهم أشد تبكيت.

وكما ورد في الحديث الصحيح: إن أول ما تسعر به جهنم، العالم الذي يأمر الناس ولا يأتمر، وينهاهم ولا ينتهي.

وبالجملة: فهذا أمر معلوم: أن العلم وكثرته، وبلوغ حامله إلى أعلى درجات العرفان، لا يسقط عنه شيء من التكاليف الشرعية، بل يزيدها عليه شدة، ويخاطب بأمور لا يخاطب بها الجاهل، ويكلف بتكاليف غير تكاليف [ ص: 129 ] الجاهل، ويكون ذنبه أشد، وعقوبته أعظم، وهذا لا ينكره أحد ممن له أدنى تمييز بعلم الشريعة.

والآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى لو جمعت، لكانت مؤلفا مستقلا، ومصنفا حافلا، وليس ذلك من غرضنا في هذا البحث، بل غاية الغرض من هذا، ونهاية القصد، هو بيان أن العالم كالجاهل في التكاليف الشرعية، والتعبد بما في الكتاب والسنة، مع ما أوضحناه لك من التفاوت بين الرتبتين: رتبة العالم، ورتبة الجاهل في كثير من التكاليف، واختصاص العالم منهما بما لا يجب على الجاهل.

وبهذا يتقرر لك أن ليس لأحد من العلماء المختلفين، أو من التابعين لهم والمقتدين بهم أن يقول: الحق ما قاله فلان دون فلان، أو فلان أولى بالحق من فلان، بل الواجب عليه إن كان ممن له فهم، وعلم، وتمييز: أن يرد ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فمن كان دليل الكتاب والسنة معه، فهو المحق، وهو الأولى بالحق.

ومن كان دليل الكتاب والسنة عليه، لا له، كان هو المخطئ، ولا ذنب عليه في هذا الخطأ. وإن كان قد وفى الاجتهاد حقه، بل هو معذور، بل مأجور كما ثبت في الحديث الصحيح أنه "إذا اجتهد فأصاب، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" فناهيك بخطأ يؤجر عليه، ولا يجوز لغيره أن يتبعه في خطئه، ولا يعذر كعذره، ولا يؤجر كأجره، بل واجب على من عداه من المكلفين أن يترك الاقتداء به في الخطأ، ويرجع إلى الحق الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة.

وإذا وقع الرد لما اختلف فيه أهل العلم إلى الكتاب والسنة، كان من معه دليل الكتاب والسنة، هو الذي أصاب الحق ووافقه، وإن كان واحدا، والذي لم [ ص: 130 ] يكن معه دليل الكتاب والسنة، هو الذي لم يصب الحق، بل أخطأه، وإن كان عددا كثيرا.

فليس لعالم ولا متعلم، ولا لمن يفهم، وإن كان مقصرا أن يقول: إن الحق بيد من يقتدي به من العلماء إن كان دليل الكتاب والسنة بيد غيره، فإن ذلك جهل عظيم، وتعصب شديد، وخروج من دائرة الإنصاف بالمرة; لأن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق.

وليس أحد من العلماء المجتهدين، والأئمة المحققين بمعصوم، ومن لم يكن معصوما فهو يجوز عليه الخطأ، كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة، ويخطئ أخرى.

ولا يتبين صوابه من خطئه إلا بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن وافقهما فهو مصيب، وإن خالفهما فهو مخطئ.

ولا خلاف في هذه الجملة بين جميع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، كبيرهم وصغيرهم، جليلهم وحقيرهم.

وهذا يعرفه كل من له أدنى حظ من العلم، وأحقر نصيب من العرفان.

ومن لم يفهم هذا ويعترف به، فليتهم نفسه، ويعلم أنه قد جنى على نفسه بالخوض فيما ليس من شأنه، والدخول فيما لا تبلغ إليه قدرته، ولا ينفذ فيه فهمه.

وعليه أن يمسك قلمه ولسانه، ويشتغل بطلب العلم، ويفرغ نفسه لطلب علوم الاجتهاد، التي يتوصل بها إلى معرفة الكتاب والسنة، وفهم معانيهما، والتمييز بين دلائلهما، ويجتهد في البحث عن السنة وعلومها، حتى يتميز صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، وينظر في كلام الأئمة الكبار، من سلف هذه الأمة وخلفها، حتى يهتدي بكلامهم إلى الوصول إلى مطلوبه.

فإنه إن فعل هذا، تقدم الاشتغال بما قدمنا، ندم على ما فرط منه قبل أن يتعلم هذه العلوم غاية الندم، وتمنى أنه أمسك عن التكلم بما لا يعنيه، وسكت عن الخوض فيما لا يدريه.

[ ص: 131 ] وما أحسن ما أدبنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه من قوله: "رحم الله امرأ قال خيرا أو صمت" وهذا في الذي تكلم في العلم قبل أن يفتح الله عليه بما لا بد منه، وشغل نفسه بالتعصب للعلماء، وتصدر للتصويب والتخطئة في شيء لم يعلمه، ولا يفهمه حق فهمه، لم يقل خيرا، ولا صمت; فلم يتأدب بالأدب الذي أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية