الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل :

                                                                                                                                            فإذا تقرر ما وصفنا من حال الزنا واستقراره على رجم الثيب وجلد البكر ، فلا يخلو حال الزاني من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون بكرا أو ثيبا على ما سنصفه من حال البكر والثيب . فإن كان ثيبا ويسمى الثيب محصنا فحده الرجم دون الجلد .

                                                                                                                                            وذهب الخوارج إلى أن عليه جلد مائة دون الرجم ، تسوية بين البكر والثيب : احتجاجا بظاهر القرآن ، وأن الرجم من أخبار الآحاد وليست حجة عندهم في الأحكام .

                                                                                                                                            وقال داود بن علي ، وأهل الظاهر : عليه جلد مائة والرجم ، فجمعوا عليه بين الحدين : احتجاجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " .

                                                                                                                                            وبرواية قتادة ، عن الشعبي أن شراحة الهمدانية أتت عليا عليه السلام ، فقالت : قد زنيت . قال : لعلك غيراء ، لعلك رأيت رؤيا . قالت : لا . فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله . ولأن حد الزنا يوجب الجمع بين عقوبتين كالبكر يجمع له بين الجلد والتغريب .

                                                                                                                                            وذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء : إلى آية الرجم دون الجلد .

                                                                                                                                            والدليل على وجوب الرجم : - بخلاف ما قاله الخوارج - ما قدمناه من الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا ، وعن الصحابة نقلا وعملا ، واستفاضته في الناس ، وانعقاد الإجماع عليه حتى صار حكمه متواترا ، وإن كان أعيان المرجومين فيه من أخبار الآحاد ، وهذا يمنع من خلاف حدث بعده .

                                                                                                                                            والدليل على أن الجلد ساقط في رجم الثيب : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا ، ولو جلدهما لنقل كما نقل رجمهما .

                                                                                                                                            وروى عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز بن مالك حين أتاه فأقر عنده [ ص: 192 ] بالزنا : لعلك قبلت ، أو غمزت ، أو نظرت . قال : لا . قال : أفعلت كذا وكذا . لا يكني ، قال : نعم . فعند ذلك أمر برجمه .

                                                                                                                                            وروى أبو سلمة ، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم اعترف بالزنا فأعرض عنه ، ثم اعترف فأعرض عنه ، حتى شهد على نفسه أربع مرات ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أبك جنون ؟ قال : لا . قال : أحصنت ؟ قال : نعم . فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم بالمصلى ، فلما أذلقته الحجارة فر ، فأدرك فرجم حتى مات .

                                                                                                                                            وروى أبو المهلب ، عن عمران بن الحصين أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا ، وقالت : إني حبلى . فدعى النبي صلى الله عليه وسلم وليها ، فقال : أحسن إليها ، فإذا وضعت فائتني بها . ففعل ، فلما وضعت جاء بها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اذهبي فأرضعيه . ففعلت ، ثم جاءت ، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشد عليها ثيابها ثم أمر برجمها ، وصلى عليها ، فقال له عمر : يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها ؟ فقال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، هل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها ؟ .

                                                                                                                                            وقال - فيما قدمناه من حديث أبي هريرة - : " اغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " فدلت هذه الأخبار على اقتصاره على الرجم دون الجلد ، وأن ما تضمنه حديث عبادة بن الصامت من قوله : " والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " منسوخ لتقدمه على ما رويناه إذا كان هو الأصل في بيان الرجم . ولأن ما وجب به القتل لم يجب به الجلد كالردة .

                                                                                                                                            فأما حديث علي في جلد شراحة ورجمها ، ففيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه مرسل : لأن راويه عن الشعبي ولم يلقه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه جلدها : لأنه حسبها بكرا ، ثم علم أنها ثيب فرجمها ، ألا تراه أنه جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة ، ولولا ذلك لجمع بينهما في يوم واحد . والثابت أنها زنت بكرا فجلدها ، ثم زنت ثيبا فرجمها . ويحتمل أن يكون رجمها في جمعة لا تلي الخميس أو تليه .

                                                                                                                                            [ ص: 193 ] وأما القياس - وإن لم يكن من حجج أهل الظاهر - فالمعنى في الرجم : أنه عام دخل فيه ما دونه ، والجلد خاص جاز أن يقترن إليه التغريب الذي لا يدخل فيه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية