الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                و ( المقصود هنا أن هنا قولين متطرفين : قول من يقول : الإسلام مجرد الكلمة والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الإسلام وقول من يقول : مسمى الإسلام والإيمان واحد ; وكلاهما قول ضعيف مخالف لحديث جبريل وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم . ولهذا لما نصر محمد بن نصر المروزي القول الثاني : لم يكن معه حجة على صحته ; ولكن احتج بما يبطل به القول الأول ; فاحتج بقوله في قصة الأعراب : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } قال : فدل ذلك على أن " الإسلام " هو الإيمان . [ ص: 376 ] فيقال : بل يدل على نقيض ذلك لأن القوم لم يقولوا : أسلمنا ; بل قالوا : آمنا والله أمرهم أن يقولوا : أسلمنا ثم ذكر تسميتهم بالإسلام فقال : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } في قولكم : آمنا ولو كان الإسلام هو الإيمان لم يحتج أن يقول : { إن كنتم صادقين } فإنهم صادقون في قولهم : { أسلمنا } مع أنهم لم يقولوا ولكن الله قال : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم } أي : يمنون عليك ما فعلوه من الإسلام فالله تعالى سمى فعلهم إسلاما وليس في ذلك ما يدل على أنهم سموه إسلاما ; وإنما قالوا : آمنا ثم أخبر أن المنة تقع بالهداية إلى الإيمان فأما الإسلام الذي لا إيمان معه فكان الناس يفعلونه خوفا من السيف ; فلا منة لهم بفعله وإذا لم يمن الله عليهم بالإيمان كان ذلك كإسلام المنافقين فلا يقبله الله منهم .

                فأما إذا كانوا صادقين في قولهم : آمنا فالله هو المان عليهم بهذا الإيمان وما يدخل فيه من الإسلام وهو سبحانه نفى عنهم الإيمان أولا وهنا علق منة الله به على صدقهم فدل على جواز صدقهم . وقد قيل : إنهم صاروا صادقين بعد ذلك ويقال : المعلق بشرط لا يستلزم وجود ذلك الشرط ويقال : لأنه كان معهم إيمان ما . لكن ما هو الإيمان الذي وصفه ثانيا ؟ بل معهم شعبة من الإيمان . قال محمد بن نصر : وقال الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } الآية وقال : { إن الدين عند الله الإسلام } فسمى إقام الصلاة وإيتاء [ ص: 377 ] الزكاة دينا قيما وسمى الدين إسلاما فمن لم يؤد الزكاة فقد ترك من الدين القيم - الذي أخبر الله أنه عنده الدين وهو الإسلام - بعضا . قال : وقد جاء معينا هذه الطائفة التي فرقت بين الإسلام والإيمان على أن الإيمان قول وعمل وأن الصلاة والزكاة من الإيمان وقد سماهما الله دينا وأخبر أن الدين عنده الإسلام فقد سمى الله الإسلام بما سمى به الإيمان وسمى الإيمان بما سمى به الإسلام وبمثل ذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم . فمن زعم أن الإسلام هو الإقرار وأن العمل ليس منه فقد خالف الكتاب والسنة ; ولا فرق بينه وبين المرجئة إذ زعمت أن الإيمان إقرار بلا عمل . فيقال : أما قوله إن الله جعل الصلاة والزكاة من الدين والدين عنده هو الإسلام فهذا كلام حسن موافق لحديث جبريل ورده على من جعل العمل خارجا من الإسلام كلام حسن وأما قوله : إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان فليس كذلك فإن الله إنما قال : { إن الدين عند الله الإسلام } ولم يقل قط إن الدين عند الله الإيمان ; ولكن هذا الدين من الإيمان وليس إذا كان منه يكون هو إياه ; فإن الإيمان أصله معرفة القلب وتصديقه وقوله ; والعمل تابع لهذا العلم والتصديق ملازم له ولا يكون العبد مؤمنا إلا بهما .

                وأما الإسلام فهو عمل محض مع قول والعلم والتصديق ليس جزء مسماه لكن يلزمه جنس التصديق فلا يكون عمل إلا بعلم لكن لا يستلزم الإيمان المفصل الذي بينه الله ورسوله كما قال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } . وسائر النصوص التي تنفي الإيمان عمن لم يتصف بما ذكره فإن كثيرا من المسلمين مسلم باطنا وظاهرا ومعه تصديق مجمل ولم يتصف بهذا الإيمان والله تعالى قال : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } وقال : { ورضيت لكم الإسلام دينا } ولم يقل : ومن يبتغ غير الإسلام علما ومعرفة وتصديقا وإيمانا ولا قال : رضيت لكم الإسلام تصديقا وعلما فإن الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع ; فمن ابتغى غير الإسلام دينا فلن يقبل معه والإيمان طمأنينة ويقين أصله علم وتصديق ومعرفة والدين تابع له يقال : آمنت بالله وأسلمت لله . قال موسى : { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } فلو كان مسماهما واحدا كان هذا تكريرا وكذلك قوله : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } كما قال : والصادقين والصابرين والخاشعين : فالمؤمن متصف بهذا كله لكن هذه الأسماء لا تطابق الإيمان في العموم والخصوص وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت } كما ثبت في " الصحيحين " أنه كان يقول ذلك إذا قام من الليل وثبت في " صحيح مسلم " وغيره أنه كان يقول : في سجوده : { اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت } وفي الركوع يقول : { لك ركعت ولك [ ص: 379 ] أسلمت وبك آمنت } ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم خاصة كل منهما قال : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم } ومعلوم أن السلامة من ظلم الإنسان غير كونه مأمونا على الدم والمال فإن هذا أعلى والمأمون يسلم الناس من ظلمه وليس من سلموا من ظلمه يكون مأمونا عندهم .

                قال محمد بن نصر : فمن زعم أن الإسلام هو الإقرار وأن العمل ليس منه فقد خالف الكتاب والسنة . وهذا صحيح ; فإن النصوص كلها تدل على أن الأعمال من الإسلام . قال : ولا فرق بينه وبين المرجئة إذ زعمت أن الإيمان إقرار بلا عمل . فيقال : بل بينهما فرق وذلك أن هؤلاء الذين قالوه من أهل السنة كالزهري ومن وافقه يقولون : الأعمال داخلة في الإيمان والإسلام عندهم جزء من الإيمان والإيمان عندهم أكمل وهذا موافق للكتاب والسنة . ويقولون : الناس يتفاضلون في الإيمان وهذا موافق للكتاب والسنة والمرجئة يقولون : الإيمان بعض الإسلام والإسلام أفضل : ويقولون إيمان الناس متساو فإيمان الصحابة وأفجر الناس سواء ويقولون : لا يكون مع أحد بعض الإيمان دون بعض وهذا مخالف للكتاب والسنة . وقد أجاب أحمد عن هذا السؤال كما قاله في إحدى روايتيه : إن الإسلام هو الكلمة .

                قال الزهري : فإنه تارة يوافق من قال ذلك وتارة لا يوافقه [ ص: 380 ] بل يذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الإسلام غير الإيمان ; فلما أجاب بقول الزهري قال له الميموني : قلت يا أبا عبد الله تفرق بين الإسلام والإيمان ؟ قال : نعم ; قلت : بأي شيء تحتج ؟ قال : عامة الأحاديث تدل على هذا ثم قال : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن } . وقال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } قلت له : فتذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن ؟ قال : نعم قلت : فإذا كانت المرجئة تقول : إن الإسلام هو القول قال : هم يصيرون هذا كله واحدا ويجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا على إيمان جبريل ومستكمل الإيمان ; قلت : فمن ههنا حجتنا عليهم ؟ قال : نعم . فقد أجاب أحمد : بأنهم يجعلون الفاسق مؤمنا مستكمل الإيمان على إيمان جبريل .

                وأما قوله : يجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا فهذا قول من يقول : الدين والإيمان شيء واحد فالإسلام هو الدين فيجعلون الإسلام والإيمان شيئا واحدا ; وهذا القول قول المرجئة فيما يذكره كثير من الأئمة كالشافعي وأبي عبيد وغيرهما ومع هؤلاء يناظرون فالمعروف من كلام المرجئة : الفرق بين لفظ الدين والإيمان والفرق بين الإسلام والإيمان . ويقولون : الإسلام بعضه إيمان وبعضه أعمال والأعمال منها فرض ونفل ولكن كلام السلف كان فيما يظهر لهم ويصل إليهم من كلام أهل البدع كما تجدهم في الجهمية ; إما يحكون عنهم أن الله في كل مكان وهذا قول طائفة منهم كالنجارية وهو قول عوامهم [ ص: 381 ] وعبادهم وأما جمهور نظارهم من الجهمية والمعتزلة والضرارية وغيرهم فإنما يقولون : هو لا داخل العالم ولا خارجه ولا هو فوق العالم .

                وكذلك كلامهم في " القدرية " يحكون عنهم إنكار العلم والكتابة وهؤلاء هم القدرية الذين قال ابن عمر فيهم : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني وهم الذين كانوا يقولون : إن الله أمر العباد ونهاهم وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك فعلمه بعد ما فعلوه ولهذا قالوا : الأمر أنف أي : مستأنف ; يقال : روض أنف إذا كانت وافرة لم ترع قبل ذلك يعني أنه مستأنف العلم بالسعيد والشقي ويبتدئ ذلك من غير أن يكون قد تقدم بذلك علم ولا كتاب فلا يكون العمل على ما قد قدر فيحتذي به حذو القدر بل هو أمر مستأنف مبتدأ والواحد من الناس إذا أراد أن يعمل عملا قدر في نفسه ما يريد عمله ثم عمله كما قدر في نفسه وربما أظهر ما قدره في الخارج بصورته ويسمى هذا التقدير الذي في النفس خلقا ومنه قول الشاعر :

                ولأنت تفري ما خلقت وبع ض الناس يخلق ثم لا يفري

                يقول : إذا قدرت أمرا أمضيته وأنفذته بخلاف غيرك فإنه عاجز عن إمضاء ما يقدره وقال تعالى { إنا كل شيء خلقناه بقدر } وهو سبحانه يعلم قبل أن يخلق الأشياء كل ما سيكون وهو يخلق بمشيئته فهو يعلمه ويريده وعلمه وإرادته قائم بنفسه وقد يتكلم به ويخبر به كما في قوله : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } وقال : { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } وقال تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } { إنهم لهم المنصورون } { وإن جندنا لهم الغالبون } .

                وقال تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم } وهو سبحانه كتب ما يقدره فيما يكتبه فيه كما قال : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } قال ابن عباس : إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون ثم قال لعلمه : كن كتابا ; فكان كتابا ثم أنزل تصديق ذلك في قوله {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } وقال : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } وقال : { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } وقال للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } فالملائكة قد علمت ما يفعل بنو آدم من الفساد وسفك الدماء فكيف لا يعلمه الله سواء علموه بإعلام الله - فيكون هو أعلم بما علمهم إياه كما قاله أكثر المفسرين : - أو قالوه بالقياس على من كان قبلهم كما قاله : طائفة منهم أو بغير ذلك والله أعلم بما سيكون من مخلوقاته الذين لا علم لهم إلا ما علمهم وما أوحاه إلى أنبيائه وغيرهم مما سيكون هو أعلم به منهم فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء .

                [ ص: 383 ] وأيضا فإنه قال للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } قبل أن يأمرهم بالسجود لآدم وقبل أن يمتنع إبليس ; وقبل أن ينهى آدم عن أكله من الشجرة وقبل أن يأكل منها ويكون أكله سبب إهباطه إلى الأرض فقد علم الله سبحانه أنه سيستخلفه مع أمره له ولإبليس بما يعلم أنهما يخالفانه فيه ويكون الخلاف سبب أمره لهما بالإهباط إلى الأرض والاستخلاف في الأرض . وهذا يبين أنه علم ما سيكون منهما من مخالفة الأمر فإن إبليس امتنع من السجود لآدم وأبغضه فصار عدوه فوسوس له حتى يأكل من الشجرة فيذنب آدم أيضا فإنه قد تألى إنه ليغوينهم أجمعين وقد سأل الإنظار إلى يوم يبعثون فهو حريص على إغواء آدم وذريته بكل ما أمكنه لكن آدم تلقى من ربه كلمات فتاب عليه واجتباه ربه وهداه بتوبته فصار لبني آدم سبيل إلى نجاتهم وسعادتهم مما يوقعهم الشيطان فيه بالإغواء وهو التوبة قال تعالى : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } . وقدر الله قد أحاط بهذا كله قبل أن يكون وإبليس أصر على الذنب واحتج بالقدر وسأل الإنظار ليهلك غيره وآدم تاب وأناب وقال هو وزوجته : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } فتاب الله عليه فاجتباه وهداه وأنزله إلى الأرض ليعمل فيها بطاعته ; فيرفع الله بذلك درجته ويكون دخوله الجنة بعد هذا أكمل مما كان فمن أذنب من أولاد آدم فاقتدى بأبيه آدم في التوبة كان سعيدا وإذا تاب وآمن وعمل صالحا [ ص: 384 ] بدل الله سيئاته حسنات وكان بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة كسائر أولياء الله المتقين . ومن اتبع منهم إبليس فأصر على الذنب واحتج بالقدر وأراد أن يغوي غيره كان من الذين قال فيهم : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } .

                والمقصود هنا ذكر القدر ; وقد ثبت في " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ; وكان عرشه على الماء } وفي " صحيح البخاري " عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض } وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه أخبر : { أن الله قد علم أهل الجنة من أهل النار وما يعمله العباد قبل أن يعملوه } . وفي " الصحيحين " عن عبد الله بن مسعود : { أن الله يبعث ملكا بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح فيه فيكتب أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد } . وهذه الأحاديث تأتي إن شاء الله في مواضعها . فهذا القدر هو الذي أنكره " القدرية " الذين كانوا في أواخر زمن الصحابة . وقد روي أن أول من ابتدعه بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له : سيسويه من أبناء المجوس وتلقاه عنه معبد الجهني ويقال : أول ما حدث في الحجاز لما احترقت الكعبة فقال [ ص: 385 ] رجل : احترقت بقدر الله تعالى . فقال آخر : لم يقدر الله هذا . ولم يكن على عهد الخلفاء الراشدين أحد ينكر القدرة ; فلما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقي من الصحابة كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وواثلة بن الأسقع : وكان أكثره بالبصرة والشام وقليل منه بالحجاز ; فأكثر كلام السلف في ذم هؤلاء القدرية : ولهذا قال وكيع بن الجراح : القدرية يقولون : الأمر مستقبل وإن الله لم يقدر الكتابة والأعمال ; والمرجئة يقولون : القول يجزئ من العمل ; والجهمية يقولون : المعرفة تجزئ من القول والعمل . قال وكيع : وهو كله كفر ورواه ابن . ولكن لما اشتهر الكلام في القدر ; ودخل فيه كثير من أهل النظر والعباد صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق . وعن عمرو بن عبيد في إنكار الكتاب المتقدم روايتان . وقول أولئك كفرهم عليه مالك والشافعي وأحمد وغيرهم .

                وأما هؤلاء فهم مبتدعون ضالون لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك ; وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد كتب عنهم العلم . وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم لكن من كان داعية إليه لم يخرجوا له وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره : أن من كان داعية إلى بدعة فإنه يستحق العقوبة لدفع ضرره عن الناس وإن كان في الباطن مجتهدا وأقل عقوبته أن يهجر فلا يكون له مرتبة في الدين [ ص: 386 ] لا يؤخذ عنه العلم ولا يستقضى ولا تقبل شهادته ونحو ذلك . ومذهب مالك قريب من هذا ولهذا لم يخرج أهل الصحيح لمن كان داعية ولكن رووا هم وسائر أهل العلم عن كثير ممن كان يرى في الباطن رأي القدرية والمرجئة والخوارج والشيعة .

                وقال أحمد : لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة وهذا لأن " مسألة خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات " مسألة مشكلة وكما أن القدرية من المعتزلة وغيرهم أخطئوا فيها فقد أخطأ فيها كثير ممن رد عليهم أو أكثرهم فإنهم سلكوا في الرد عليهم مسلك جهم بن صفوان وأتباعه فنفوا حكمة الله في خلقه وأمره ونفوا رحمته بعباده ونفوا ما جعله من الأسباب خلقا وأمرا وجحدوا من الحقائق الموجودة في مخلوقاته وشرائعه ما صار ذلك سببا لنفور أكثر العقلاء الذين فهموا قولهم عما يظنونه السنة إذ كانوا يزعمون أن قول أهل السنة في القدر هو القول الذي ابتدعه جهم وهذا لبسطه موضع آخر . وإنما المقصود هنا أن " السلف " في ردهم على المرجئة والجهمية والقدرية وغيرهم يردون من أقوالهم ما يبلغهم عنهم وما سمعوه من بعضهم . وقد يكون ذلك قول طائفة منهم وقد يكون نقلا مغيرا . فلهذا ردوا على المرجئة الذين يجعلون الدين والإيمان واحدا ; ويقولون هو القول . وأيضا فلم يكن حدث في زمنهم من المرجئة من يقول : الإيمان هو مجرد القول بلا تصديق ولا معرفة [ ص: 387 ] في القلب . فإن هذا إنما أحدثه ابن كرام وهذا هو الذي انفرد به ابن كرام . وأما سائر ما قاله فأقوال قيلت قبله ولهذا لم يذكر الأشعري ولا غيره ممن يحكي مقالات الناس عنه قولا انفرد به إلا هذا .

                وأما سائر أقواله فيحكونها عن ناس قبله ولا يذكرونه . ولم يكن ابن كرام في زمن أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة فلهذا يحكون إجماع الناس على خلاف هذا القول ; كما ذكر ذلك أبو عبد الله أحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهما . وكان قول المرجئة قبله : إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وقول جهم : إنه تصديق القلب ; فلما قال ابن كرام : إنه مجرد قول اللسان . صارت أقوال المرجئة ثلاثة لكن أحمد كان أعلم بمقالات الناس من غيره فكان يعرف قول الجهمية في الإيمان وأما أبو ثور . فلم يكن يعرفه ولا يعرف إلا مرجئة الفقهاء فلهذا حكي الإجماع على خلاف قول الجهمية والكرامية . قال أبو ثور في رده على المرجئة كما روى ذلك أبو القاسم الطبري اللكائي وغيره : عن إدريس بن عبد الكريم قال : سأل رجل من أهل خراسان أبا ثور عن الإيمان وما هو أيزيد وينقص ؟ وقول هو أو قول وعمل ؟ أو تصديق وعمل . فأجابه أبو ثور بهذا فقال : سألت رحمك الله وعفا عنا وعنك عن الإيمان ما هو يزيد وينقص ؟ وقول هو أو قول وعمل أو تصديق وعمل ؟ فأخبرك بقول الطوائف واختلافهم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية