الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1710 380 - (حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا مالك عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله).

                                                                                                                                                                                  [ ص: 138 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 138 ] مطابقته للترجمة هي أنه جعل الترجمة جزءا من الحديث، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وسمي، بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء آخر الحروف، القريشي المخزومي، أبو عبد الله المدني، وأبو صالح ذكوان الزيات.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن عبد الله بن يوسف، وفي الأطعمة عن أبي نعيم، وأخرجه مسلم في المغازي عن القعنبي، وإسماعيل بن أبي أويس، وأبي مصعب الزهري، ومنصور بن أبي مزاحم، وقتيبة بن سعيد، ويحيى بن يحيى، كلهم عن مالك، وأخرجه النسائي في السير عن قتيبة به، وعن عمرو بن علي، ومحمد بن المثنى، كلاهما عن يحيى بن سعيد عن مالك به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجال هذا الحديث) قال أبو عمر : هذا حديث تفرد به مالك عن سمي ولا يصح لغيره، وانفرد به سمي أيضا فلا يحفظ عن غيره، وهكذا هو في الموطأ عند جماعة الرواة بهذا الإسناد، ورواه ابن مهدي عن بشر بن عمر، عن مالك مرسلا، وكان وكيع يحدث به عن مالك حينا مرسلا، وحينا يسنده كما في الموطأ، والمسند صحيح ثابت احتياج الناس إليه عن مالك، وليس له غير هذا الإسناد من وجه يصح، وروى عبيد الله بن المنتاب عن سليمان بن إسحاق الطلحي عن هارون الفروي عن عبد الملك بن الماجشون قال: قال مالك : ما بال أهل العراق يسألوني عن حديث: " السفر قطعة من العذاب "، قيل له: لم يروه غيرك، فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما حدثت به. ورواه عصام بن رواد بن الجراح، عن أبيه، عن مالك، عن ربيعة، عن القاسم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وعن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السفر قطعة من العذاب".

                                                                                                                                                                                  قال أبو عمرو : حديث رواد عن مالك عن ربيعة عن القاسم غير محفوظ، لا أعلم رواه عن مالك غيره، وهو خطأ، وليس رواد ممن يحتج ولا يعول عليه، وقد رواه خالد بن مخلد، ومحمد بن جعفر الوركاني عن مالك عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، ولا يصح لمالك عن سهيل عندي إلا أنه لا يبعد أن يكون عن سهيل أيضا، وليس بمعروف لمالك عنه، وقد روى عن عتيق بن يعقوب عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح أيضا عندي، وإنما هو مالك عن سمي، لا عن سهيل ولا ربيعة، ولا عن أبي النضر.

                                                                                                                                                                                  وقد رواه بعض الضعفاء عن مالك فقال: " وليتخذ لأهله هدية، وإن لم يلق إلا حجرا فليلقه في مخلاته "، قال: والحجارة يومئذ يضرب بها القداح، وقال أبو عمرو : هذه زيادة منكرة لا تصح.

                                                                                                                                                                                  ورواه ابن سمعان عن زيد بن أسلم عن جمهان عن أبي هريرة يرفعه: " السفر قطعة من العذاب وابن سمعان كان مالك يرميه بالكذب، قال: وقد رويناه عن الدراوردي عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة بإسناد صالح، لكن لا تقوى الحجة به، وفيه: " وإذا عرستم فتجنبوا الطريق، فإنها مأوى الهوام والدواب ".

                                                                                                                                                                                  قوله: (السفر قطعة من العذاب) أي: جزء منه، والمراد بالعذاب الألم الناشئ عن المشقة. قوله: (يمنع أحدكم) جملة استئنافية؛ فلذلك فصلها عما قبلها، وهي في الحقيقة جواب عما يقال: لم كان السفر كذلك؟ فقال: لأنه يمنع أحدكم طعامه؛ أي: لذة طعامه. وقال الخطابي: يريد أنه يمنعه الطعام في الوقت الذي يستوفيه منه لغدائه وعشائه والنوم، كذلك يمنعه في وقته واستيفاء القدر الذي يحتاج إليه.

                                                                                                                                                                                  وقد ورد التعليل في رواية سعيد المقبري بلفظ: " السفر قطعة من العذاب؛ لأن الرجل يشتغل فيه عن صلاته وصيامه..." الحديث، والمراد بالمنع في الأشياء المذكورة ليس منع حقيقتها، وإنما المراد منع كمالها على ما لا يخفى، ويؤيد ما رواه الطبراني بلفظ: " لا يهنأ أحدكم نومه ولا طعامه ولا شرابه"، وفي حديث ابن عمر عند ابن عدي: " فإنه ليس له دواء إلا سرعة السير".

                                                                                                                                                                                  قوله: (فإذا قضى نهمته)، بفتح النون وسكون الهاء؛ أي: حاجته. وقال ابن التين: وضبطناه أيضا بكسر النون، وفي الموعب: النهمة: بلوغ الهمة بالشيء، وهو منهوم بكذا؛ أي: مولع لا ينشرح، وتقول: قضيت منه نهمتي؛ أي: حاجتي، وعن أبي زيد: المنهوم الذي يمتلئ بطنه ولا تنتهي حاجته. وعن أبي العباس: نهم ونهم بمعنى.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فليعجل إلى أهله)، وفي رواية عتيق بن يعقوب، وسعيد المقبري: " فليعجل الرجوع إلى أهله". وفي رواية مصعب: " فليعجل الكرة إلى أهله"، وفي حديث عائشة: " فليعجل الرحلة إلى أهله فإنه أعظم لأجره.

                                                                                                                                                                                  (ومما يستفاد من الحديث): كراهة التغرب عن الأهل بغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع، ولا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما فيها من تحصيل الجماعات والجمعات، والقوة على العبادات، والعرب تشبه الرجل في أهله بالأمير، وقيل في قوله تعالى: [ ص: 139 ] وجعلكم ملوكا قال: من كان له دار وخادم فهو داخل في معنى الآية، وقد أخبر الله تعالى بلطف محل الأزواج من أزواجهن بقوله: وجعل بينكم مودة ورحمة فقيل: المودة الجماع، والرحمة الولد.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: روى وكيع عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم الناس ما لمسافر لأصبحوا على الظهر سفرا، إن الله لينظر إلى الغريب في كل يوم مرتين "، وفي حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم مرفوعا: " سافروا تغنموا"، وفي رواية: " ترزقوا"، ويروى: " سافروا تصحوا"، فهذا معارض لحديث الباب.

                                                                                                                                                                                  قلت: حديث أبي هريرة، قال أبو عمر : هذا حديث غريب لا أصل له من حديث مالك ولا غيره، وأما حديث ابن عباس وابن عمر، فقد قال ابن بطال: لا تعارض بينه وبين حديث الباب؛ لأنه لا يلزم من الصحة بالسفر لما فيه من الرياضة أن لا يكون قطعة من العذاب لما فيه من المشقة، فصار كالدواء المر المعقب للصحة، وإن كان في تناوله الكراهة.

                                                                                                                                                                                  واستنبط منه الخطابي تغريب الزاني لأنه قد أمر بتعذيبه، والسفر من جملة العذاب، وفيه ما فيه على ما لا يخفى.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية