الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والذين قالوا : إن الكلام حروف وأصوات متقارنة قديمة لا يسبق بعضها بعضا، وهو مع ذلك واحد ، إنما قالوه تبعا لأولئك وجريا على قياس قولهم ، وهو لازم لهم مع ظهور فساده ، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم .

ويلزم من قال ذلك أن يجعل الطعم واللون والريح شيئا واحدا .

وإذا قيل : هذا كالسواد والبياض .

قيل له : ويلزمك أن تجعل السواد والبياض شيئا واحدا ، كما جعلت العلم والقدرة والحياة شيئا واحدا .

فإذا قال : نحن تكلمنا فيما يمكن اجتماعه من المعاني ، والسواد والبياض متضادان .

قيل : الجواب من وجهين: [ ص: 122 ]

أحدهما : أنه يلزمك هذا في المعاني المختلفة التي يمكن اجتماعها ، كالطعم واللون والريح ، فقل إنها شيء واحد ، كما أن العلم والإرادة والقدرة ، والطلب والخبر والأمر والنهي شيء واحد .

الثاني : أن يقال : تضاد الحروف كتضاد معاني الكلام ، أو تضاد الحركات لا كتضاد السواد والبياض . فإن المحل الواحد لا يتسع لحركتين ولا لمعنيين ، فلا يتسع لحرفين وصوتين. وفرق بين ما يتضادان لأنفسهما، وما يتضادان لضيق المحل .

وإذا كان كذلك ، كان تضاد الحروف والحركات ، كتضاد معاني الكلام .

فإن قلب الإنسان يعجز في الساعة الواحدة عن جمع جميع معاني الكلام ، فإلحاق حروف الكلام بأسبابها ، وهي الحركات ومضموناتها ومدلولاتها ، وهي المعاني ، أولى من إلحاقها بالمتضادات لنفسها ، كالسواد والبياض .

وحينئذ فإذا جعلت معاني الكلام شيئا واحدا، فاجعل حروف الكلام شيئا واحدا ، وإلا فما الفرق؟

وقد يقال في الفرق : إن الحروف مقاطع الأصوات ، والأصوات تابعة لأسبابها ، وهي الحركات . والحركات : إما متماثلة وإما مختلفة ، وكل من الحركات المختلفة والمتماثلة متضادة ، لا يمكن اجتماع [ ص: 123 ] حركتين في محل واحد في زمن واحد ، فلا يجتمع صوتان ، فلا يجتمع حرفان .

والحركات هي من الأكوان ، والأكوان كالألوان ، فكما لا يجتمع لونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد ، فلا يجتمع كونان [مختلفان] في محل واحد في وقت واحد .

بخلاف معاني الكلام ، كالطلب الذي يتضمن الحب للمأمور به والبغض للمنهي عنه ، والخبر الذي يتضمن العلم والاعتقاد للمخبر عنه ، فإنها وإن كانت حقائق متنوعة، لكن لا يمنع اجتماعها ، فإن الأمر بالشيء لا يضاد النهي عن غيره ولا العلم بثالث ، فلم تتضاد لأنفسها، ولكنها لعجز العبد عن جمعها .

فالأمور ثلاثة أنواع : ما امتنع اجتماعها لنفسها ، كالألوان المختلفة . وما أمكن اجتماعها ، وقد تجتمع كالعلم والإرادة والقدرة ، والطعم واللون والريح . وما يعجز بعض الأحياء عن جمعها ، كجمع الإرادات الكثيرة والاعتقادات الكثيرة في زمن واحد، فهذه ليس بين حقائقها منافاة تمنع اجتماعها ، ولكن العبد يعجز عن جمعها ، كما أنه لا يمتنع أن يعمل بلسانه عملا وبيده [ ص: 124 ] عملا ، وبرجله عملا ، وأن يسمع كلام هذا القارئ وهذا القارئ وهذا القارئ ، فالجمع بين هذه الأمور قد يتعذر لعجز العبد لا لامتناع اجتماعها في نفسه ، فإن سمع هذا لا ينافي سمع هذا لذاته ، ولا هذه الحركة تنافي هذه الحركة لذاتها، ولهذا يعقل اجتماع هذه بخلاف اجتماع الضدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية