الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  160 28 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال: أخبرنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة في قوله: "ومن استجمر فليوتر" وهذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام، وعقد الترجمة على الاستجمار الذي هو أحد الأحكام للوجه الذي ذكرناه.

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم خمسة وعبد الله بن يوسف بن علي التنيسي تقدم ذكره في باب الوحي، والبقية تقدم ذكرهم جميعا في باب حب الرسول من الإيمان. وأبو الزناد بكسر الزاي وبالنون عبد الله بن ذكوان، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ومنها أن رواته كلهم مدنيون ما خلا عبد الله، ومنها ما قاله البخاري أصح أسانيد أبي هريرة مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم.

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الطهارة، عن القعنبي، عن مالك ، وأخرجه النسائي فيه أيضا عن الحسين بن عيسى البسطامي، عن معن بن عيسى، عن مالك، وأخرجه مسلم من طريق آخر: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد بن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات; فإنه لا يدري أين باتت يده.

                                                                                                                                                                                  وفي لفظ: "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ، ثم ليستنثر". وفي لفظ: "فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا". وفي لفظ: "إذا استيقظ أحدكم فليفرغ على يديه ثلاث مرات قبل أن يدخل يده في إنائه، فإنه لا يدري فيما باتت يده". وأخرجه أبو داود أيضا من طريق آخر : حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات; فإنه لا يدري أين باتت يده".

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي من وجه آخر: حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده".

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي من وجه آخر: أنبأنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سلمة، عن أبي هريرة أن النبي [ ص: 17 ] عليه الصلاة والسلام قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثا; فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". وأخرجه ابن ماجه أيضا: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما حدثاه أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا; فإن أحدكم لا يدري فيم باتت يده".

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار : حدثنا سليمان بن شعيب قال: حدثنا بشر بن بكير قال: حدثني الأوزاعي، وحدثنا الحسين بن نصر قال: حدثنا الفريابي، قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا ابن شهاب قال: حدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة كان يقول: "إذا قام أحدكم من الليل" إلى آخره مثل لفظ ابن ماجه غير أن في لفظ الطحاوي : "فإنه لا يدري أحدكم فيم باتت يده".

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الدارقطني أيضا بإسناد حسن، ولفظه: " أين باتت تطوف يده ". وفي الأوسط للطبراني : " ويسمي قبل أن يدخلها ". وقال: لم يروه عن هشام يعني عن أبي الزناد إلا عبد الله بن يحيى بن عروة، تفرد به إبراهيم بن المنذر، ولا قال أحد ممن رواه عن أبي الزناد ويسمي إلا هشام بن عروة، وفي جامع عبد الله بن وهب المصري صاحب مالك : "حتى يغسل يده أو يفرغ فيها، فإنه لا يدري حيث باتت يده".

                                                                                                                                                                                  وفي علل ابن أبي حاتم الرازي : "فليغرف على يده ثلاث غرفات". وفي لفظ : "ثم ليغترف بيمينه من إنائه". وعند البيهقي : "أين باتت يده منه". وعند ابن عدي من رواية الحسن، عن أبي هريرة مرفوعا: "فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فليرق ذلك الماء". وفي سنن الكجي الكبير: "حتى يصب عليها صبة أو صبتين". وفي لفظ: "على ما باتت يده".

                                                                                                                                                                                  وهذا الحديث روي عن جابر وابن عمر رضي الله عنهم أيضا، أما حديث جابر فرواه الدارقطني من حديث أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا قام أحدكم من الليل فأراد أن يتوضأ فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها; فإنه لا يدري أين باتت يده ولا على ما وضعها ". إسناده حسن .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث ابن عمر فرواه الدارقطني أيضا من حديث ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات; فإنه لا يدري أين باتت يده منه أو أين طافت يده. فقال له رجل: أرأيت إن كان حوضا فحصبه ابن عمر وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أرأيت إن كان حوضا". إسناده حسن، وحديث أبي الزبير، عن عائشة مرفوعا نحوه.

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات والإعراب ) قوله: " فليجعل في أنفه" تقديره فليجعل في أنفه ماء، فحذف ماء الذي هو المفعول لدلالة الكلام عليه، وهكذا هو رواية الأكثرين بحذف "ماء" ، وفي رواية أبي ذر: "فليجعل في أنفه ماء" بدون الحذف، وكذا اختلفت رواة الموطإ في إسقاطه وذكره، وثبت ذكره لمسلم من رواية سفيان، عن أبي الزناد والفاء في "فليجعل" جواب الشرط أعني "إذا" وقال بعض الشارحين ومعنى "فليجعل" فليلق قلت: "جعل" بهذا المعنى لم يثبت في اللغة، والأولى أن يقال: إنه بمعنى صير كما في قولك: جعلته كذا أي صيرته .

                                                                                                                                                                                  قوله : "ثم لينتثر" على وزن ليفتعل من باب الافتعال هكذا رواية أبي ذر والأصيلي، وفي رواية غيرهما "ثم لينثر" بسكون النون وضم الثاء المثلثة من باب الثلاثي المجرد، وكذا جاءت الروايتان في الموطإ . قال الفراء : يقال: نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة وهي طرف الأنف في الطهارة، وقد مر الكلام فيه مبسوطا، وهذه الجملة معطوفة على قوله: "فليجعل" .

                                                                                                                                                                                  قوله: "ومن استجمر" جملة شرطية وقوله: "فليوتر" جواب الشرط، وقد مضى الكلام فيه مستوفى. قوله: "وإذا استيقظ" الاستيقاظ بمعنى التيقظ، وهو لازم، وكلمة إذا للشرط وجوابه قوله: "فليغسل يده". وقوله: "قبل" نصب على الظرف وكلمة "أن" مصدرية. قوله: "في وضوئه" بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به، وفي رواية الكشميهني : "قبل أن يدخلها في الإناء" وهو ظرف الماء الذي يعد للوضوء وهي رواية مسلم من طرق، وفي رواية ابن خزيمة : "في إنائه أو وضوئه" على التردد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإن أحدكم" الفاء فيه للتعليل. قوله: "أين باتت" كلمة أين سؤال عن مكان إذا قلت: أين زيد ؟ فإنما تسأل عن مكانه، وإنما بني إما لتضمنه معنى حرف الاستفهام أو المجازاة; لأنك إذا قلت: أين زيد؟ فكأنك قلت: أفي الدار أم في السوق أم في المسجد أم في غيرها، وإذا قلت: أين تجلس أجلس فمعناه إن تجلس في الدار أجلس فيها، وإن تجلس في المسجد أجلس فيه.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 18 ] ( بيان المعاني ) قوله: "إذا توضأ" معناه إذا أراد أن يتوضأ. قوله: "وإذا استيقظ" عطف على قوله: "إذا توضأ أحدكم". قال بعضهم: واقتضى سياقه أنه حديث واحد. وليس هو كذلك في الموطإ ، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من الموطإ ، رواية عبد الله بن يوسف شيخ البخاري مفرقا، وكذا هو في موطإ يحيى بن بكير وغيره، وكذا فرقه الإسماعيلي من حديث مالك، وكذا أخرج مسلم الحديث الأول من طريق ابن عيينة ، عن أبي الزناد، والثاني من طريق المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: لا يلزم ذلك كله أن لا يكون الحديث واحدا، وقد يجوز أن يروى حديث واحد مقطعا من طرق مختلفة، فمثل ذلك وإن كان حديثين أو أكثر بحسب الظاهر، فهو في نفس الأمر حديث واحد، والظاهر مع سياق البخاري في كونه حديثا واحدا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قبل أن يدخلها" وفي رواية مسلم وابن خزيمة وغيرهما من طرق مختلفة: فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها. ووقع في رواية البزار : فلا يغمسن بنون التأكيد المشددة، فإنه رواه من حديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا: إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في طهوره حتى يفرغ عليها. الحديث.

                                                                                                                                                                                  ولم يقع هذا إلا في رواية البزار، والرواية التي فيها الغمس أبين في المراد من الروايات التي فيها الإدخال; لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه الكراهة، كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن تلامس يده الماء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإن أحدكم" قال البيضاوي: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة; لأن الشارع إذا ذكر حكما وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات: "فإنه يبعث ملبيا" بعد نهيهم عن تطييبه، فنبه على علة النهي وهي كونه محرما.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أين باتت يده" أي من جسده، وقال النووي : قال الشافعي : معنى لا يدري أين باتت يده أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة أو على قملة أو قذر وغير ذلك. وقال الباجي : ما قاله يستلزم الأمر بغسل ثوب النائم; لجواز ذلك عليه، وأجيب عنه بأنه محمول على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل.

                                                                                                                                                                                  قلت: فيه نظر لأن اليد إذا عرقت فالمحل بطريق الأولى على ما لا يخفى، فلا وجه حينئذ لاختصاص اليد به. وقول من قال: إنه مختص بالمحل ينافيه ما رواه ابن خزيمة، وغيره من طريق محمد بن الوليد، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة في هذا الحديث قال في آخره: أين باتت يده منه. وأصله في مسلم دون قوله منه.

                                                                                                                                                                                  قال الدارقطني : تفرد بها شعبة، وقال البيهقي : تفرد بها محمد بن الوليد. قلت: فيه نظر لأن ابن منده ذكر هذا اللفظ أيضا من حديث خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة قال: وكذلك رواه محمد بن الوليد، عن غندر ومحمد بن يحيى، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن خالد قال: وما أراهما بمحفوظين بهذه الزيادة، إلا أن رواة هذه الزيادة ثقات مقبولون وبنحوه قاله الدارقطني .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) الأول استدل به أصحابنا أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر القائم من الليل بإفراغ الماء على يده مرتين أو ثلاثا، وذلك لأنهم كانوا يتغوطون ويبولون ولا يستنجون بالماء، وربما كانت أيديهم تصيب المواضع النجسة فتتنجس، فإذا كانت الطهارة تحصل بهذا العدد من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات كان أولى وأحرى أن تحصل مما هو دونهما من النجاسات.

                                                                                                                                                                                  الثاني استدل به أصحابنا على أن غسل اليدين قبل الشروع في الوضوء سنة ، بيان ذلك أن أول الحديث يقتضي وجوب الغسل للنهي عن إدخال اليد في الإناء قبل الغسل، وآخره يقتضي استحباب الغسل للتعليل بقوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده" يعني في مكان طاهر من بدنه أو نجس، فلما انتفى الوجوب لمانع في التعليل المنصوص ثبتت السنية; لأنها دون الوجوب.

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي : الأمر فيه أمر استحباب لا أمر إيجاب، وذلك لأنه قد علقه بالشك، والأمر المضمن بالشك لا يكون واجبا، وأصل الماء الطهارة وكذلك بدن الإنسان، وإذا ثبتت الطهارة يقينا لم تزل بأمر مشكوك فيه. قلت: مذهب عامة أهل العلم أن ذلك على الاستحباب، وله أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها، وأن الماء طاهر ما لم يتيقن نجاسة يده، وممن روي عنه ذلك عبيدة وابن سيرين وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير وسالم والبراء بن عازب، والأعمش فيما ذكره البخاري، وقال ابن المنذر : قال أحمد : إذا انتبه من النوم فأدخل يده في الإناء قبل الغسل أعجب إلي أن يريق ذلك الماء إذا كان من نوم الليل، ولا يهراق في قول [ ص: 19 ] عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأبي عبيدة، واختلفوا في المستيقظ من النوم بالنهار، فقال الحسن البصري : نوم النهار ونوم الليل واحد في غمس اليد، وسهل أحمد في نوم النهار ونهى عن ذلك إذا قام من نوم الليل. قال أبو بكر: وغسل اليدين من ابتداء الوضوء ليس بفرض، وذهب داود والطبري إلى إيجاب ذلك، وأن الماء ينجس إن لم تكن اليد مغسولة. وقال ابن حزم : وسواء تباعد ما بين نومه ووضوئه أو لم يتباعد فلو صب على يديه من إناء دون أن يدخل يده فيه لزم غسل يده أيضا ثلاثا إن قام من نومه. وقال ابن القاسم: غسلهما عبادة، وقال أشهب : خشية النجاسة.

                                                                                                                                                                                  وفي الأحكام لابن بزيزة: اختلف الفقهاء في غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، فذهب قوم إلى أن ذلك من سنن الوضوء، وقيل: إنه مستحب وبه صدر ابن الجلاب في تفريعه، وقيل: بإيجاب ذلك مطلقا وهو مذهب داود وأصحابه، وقيل: بإيجابه في نوم الليل دون نوم النهار، وبه قال أحمد وقال: وهل تغسلان مجتمعتين أو متفرقتين، ففيه قولان مبنيان على اختلاف ألفاظ الحديث الواردة في ذلك، ففي بعض الطرق فغسل يديه مرتين مرتين، وذلك يقتضي الإفراد. وفي بعض طرقه "فغسل يديه مرتين" وذلك يقتضي الجمع انتهى.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: كان ينبغي أن لا ينفي السنية لأنهم كانوا يتوضئون من الأتوار، فلذلك أمرهم عليه الصلاة والسلام بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وأما في هذا الزمان فقد تغير ذلك ، قلت: السنة لما وقعت سنة في الابتداء بقيت ودامت وإن لم يبق ذلك المعنى; لأن الأحكام إنما يحتاج إلى أسبابها حقيقة في ابتداء وجودها لا في بقائها; لأن الأسباب تبقى حكما وإن لم تبق حقيقة لأن للشارع ولاية الإيجاد والإعدام، فجعلت الأسباب الشرعية بمنزلة الجواهر في بقائها حكما، وهذا كالرمل في الحج ونحوه.

                                                                                                                                                                                  الثالث استدل بإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: "من نومه" من غير تقييد على أن غمس اليدين في إناء الوضوء مكروه قبل غسلهما سواء كان عقيب نوم الليل أو نوم النهار، وخص أحمد الكراهة بنوم الليل لقوله: "أين باتت يده". والمبيت لا يكون إلا ليلا، ولأن الإنسان لا ينكشف لنوم النهار كما ينكشف لنوم الليل، لقوله: "أين باتت يده" والمبيت لا يكون إلا ليلا، فتطوف يده في أطراف بدنه كما تطوف يد النائم ليلا ، فربما أصابت موضع العذرة، وقد يكون هناك لوث من أثر النجاسة.

                                                                                                                                                                                  ويؤيد ذلك ما في رواية أبي داود ساق إسنادها مسلم : إذا قام أحدكم من الليل، وكذا الترمذي من وجه آخر صحيح. وفي رواية لأبي عوانة ساق مسلم إسنادها: "إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح". وأجابوا بأن العلة تقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وتخصيص نوم الليل بالذكر للغلبة. وقال النووي : ومذهبنا أن هذا الحكم ليس مخصوصا بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها يستحب غسلها سواء قام من النوم ليلا أو نهارا أو لم يقم منه; لأنه عليه الصلاة والسلام نبه على العلة بقوله: "فإنه لا يدري" ومعناه لا يأمن من النجاسة على يده، وهذا عام لاحتمال وجود النجاسة في النوم فيهما وفي اليقظة.

                                                                                                                                                                                  الرابع إن قوله: "في الإناء" محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة كالكوز أو كبيرة كالحب ومعه آنية صغيرة، أما إذا كانت الآنية كبيرة وليست معه آنية صغيرة فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة حتى لو أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء دون الكف، ويرفع الماء من الحب ويصب على يده اليمنى، ويدلك الأصابع بعضها ببعض فيفعل كذلك مرات ، ثم يدخل يده اليمنى بالغا ما بلغ في الإناء إن شاء وهذا الذي ذكره أصحابنا.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : وأما إذا كان الماء في إناء كبير بحيث لا يمكن الصب منه وليس معه إناء صغير يغترف به فطريقه أن يأخذ الماء بفيه ، ثم يغسل به كفيه أو يأخذه بطرف ثوبه النظيف أو يستعين بغيره. قلت: لو فرضنا أنه عجز عن أخذه بفمه، ولم يعتمد على طهارة ثوبه ولم يجد من يستعين به ماذا يفعل؟ وما قاله أصحابنا أوسع وأحسن.

                                                                                                                                                                                  الخامس يستفاد منه أن الماء القليل تؤثر فيه النجاسة وإن لم تغيره، وهذه حجة قوية لأصحابنا في نجاسة القلتين لوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره، وإلا لا يكون للنهي فائدة.

                                                                                                                                                                                  السادس يستفاد منه استحباب غسل النجاسات ثلاثا لأنه إذا مر به في المتوهمة ففي المحققة أولى ولم يرد شيء فوق الثلاث إلا في ولوغ الكلب، وسيجيء إن شاء الله تعالى أنه عليه السلام أوجب فيه الثلاث وخير فيما زاد.

                                                                                                                                                                                  السابع فيه أن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل، ولا يؤثر فيها الرش فإنه عليه الصلاة والسلام أمر بالغسل ولم يأمر بالرش.

                                                                                                                                                                                  الثامن فيه استحباب الأخذ بالاحتياط في أبواب العبادات.

                                                                                                                                                                                  التاسع أن الماء يتنجس بورود النجاسة عليه وهذا بالإجماع، وأما ورود الماء على النجاسة فكذلك عند الشافعي، وقال النووي في هذا الحديث: والفرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه، وأنها إذا وردت عليه نجسته، وإذا ورد عليها أزالها ، وتقريره [ ص: 20 ] أنه قد نهى عن إدخال اليدين في الإناء لاحتمال النجاسة، وذلك يقتضي أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه، وأمر بغسلها بإفراغ الماء عليها للتطهير، وذلك يقتضي أن ملاقاتها الماء على هذا الوجه غير مفسد بمجرد الملاقاة، وإلا لما حصل المقصود من التطهير. قلت: سلمنا أن ملاقاتهما على هذا الوجه غير مفسد بمجرد الملاقاة للضرورة، ولكن لا نسلم أنه يبقى طاهرا بعد أن أزال النجاسة. وقال النووي أيضا: وفيه دلالة على أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة نجسته وإن قلت ولم تغيره فإنها تنجسه; لأن الذي تعلق باليد ولا يرى قليل جدا، وكانت عادتهم استعمال الأواني الصغيرة التي تقصر عن القلتين بل لا تقاربها.

                                                                                                                                                                                  وقال القشيري: وفيه نظر عندي لأن مقتضى الحديث أن ورود النجاسة على الماء يؤثر فيه، ومطلق التأثير أعم من التأثير بالتنجيس، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين، فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها فقد ثبت مطلق التأثير، ولا يلزم ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس.

                                                                                                                                                                                  العاشر: فيه استحباب استعمال الكنايات في المواضع التي فيها استهجان، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "فإنه لا يدري أين باتت يده". ولم يقل فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو نجاسة ونحو ذلك، وإن كان هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا علم أن السامع يفهم بالكناية المقصود، فإن لم يكن كذلك فلا بد من التصريح لينتفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحا به.

                                                                                                                                                                                  الحادي عشر : إن قوله: "في الإناء" وإن كان عاما لكن القرينة دلت على أنه إناء الماء بدليل قوله في هذه الرواية: "في وضوئه". ولكن الحكم لا يختلف بينه وبين غيره من الأشياء الرطبة.

                                                                                                                                                                                  الثاني عشر : إن موضع الاستنجاء لا يطهر بالمسح بالأحجار، بل يبقى نجسا معفوا عنه في حق الصلاة حتى إذا أصاب موضع المسح بلل وابتل به سراويله أو قميصه ينجسه.

                                                                                                                                                                                  الثالث عشر : قوله: "فليغسل يده" يتناول ما إذا كانت يده مطلقة أو مشدودة بشيء أو في جراب، أو كان النائم عليه سراويله أو لم يكن لعموم اللفظ.

                                                                                                                                                                                  الرابع عشر : إن قوله: "فإن أحدكم" خطاب للعقلاء البالغين المسلمين، فإن كان القائم من النوم صبيا أو مجنونا أو كافرا فذكر في المغني أن فيه وجهين: أحدهما أنه كالمسلم البالغ العاقل; لأنه لا يدري أين باتت يده، والثاني أنه لا يؤثر غمسه شيئا; لأن المنع من الغمس إنما يثبت بالخطاب ولا خطاب في حق هؤلاء.

                                                                                                                                                                                  الخامس عشر: فيه إضافة النوم إلى ضمير أحدكم، وذلك ليخرج نومه صلى الله عليه وسلم فإنه تنام عينه دون قلبه.

                                                                                                                                                                                  السادس عشر: قوله: "من نومه" يفيد خروج الغفلة ونحوها.

                                                                                                                                                                                  السابع عشر: اختلفوا في أن علة الأمر التنجيس أو التعبد، فمنهم من قال وهو قول الجمهور: إن ذلك لاحتمال النجاسة، ومقتضاه إلحاق من يشك في ذلك، ولو كان مستيقظا، ومفهومه أن من درى أين باتت يده كمن لف عليها خرقة مثلا فاستيقظ وهو على حالها، فلا كراهة وإن كان غسلها مستحبا كما في المستيقظ، ومنهم من قال ومنهم مالك : بأن ذلك للتعبد ، فعلى قولهم لا يفرق بين شاك ومتيقن.

                                                                                                                                                                                  الثامن عشر: قال أبو عمر: فيه إيجاب الوضوء من النوم.

                                                                                                                                                                                  التاسع عشر : قيل : فيه تقوية من يقول بالوضوء من مس الذكر، حكاه أبو عوانة في صحيحه عن ابن عيينة ، وفيه بعد جدا.

                                                                                                                                                                                  العشرون: ما قاله الخفاف من الشافعية أن القليل من الماء لا يصير مستعملا بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء، وفيه بعد أيضا والله أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية