الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 720 ] المتعدية والقاصرة إن قيل بصحتها ، سيان حكما ، لقيام الدليل على صحتها .

                وقيل : تقدم القاصرة لمطابقتها النص في موردها ، وأمن صاحبها من الخطأ .

                وقيل : المتعدية ، لكثرة فوائدها ، فعلى هذا ترجح الأكثر فروعا على الأقل ، ومنه ترجيح ذات الوصف لكثرة فروعها على ذات الوصفين .

                ورد بأن ذات الوصفين قد تكون أكثر فروعا ، ولا مدخل للكلام في القاصرة والمتعدية في ترجيح الأقيسة ، وإنما فائدته إمكان القياس بتقدير تقديم المتعدية كالوزن في النقدين ، وعدمه بتقدير تقديم القاصرة كالثمنية فيهما ، إذ القاصر لا يتعدى محله ليقاس عليه ، ويقدم الحكم الشرعي واليقيني على الوصف الحسي ، والإثباتي عند قوم .

                وقيل : الحق التسوية ، إذ بعد قيام دليل العلية لا يختلف الظن بشيء من ذلك ، والمؤثر على الملائم ، والملائم على الغريب ، والمناسب على الشبهي .

                التالي السابق


                الوجه الثاني عشر : قال : " المتعدية والقاصرة إن قيل بصحتها سيان حكما " ، إلى آخره .

                اعلم أن العلة القاصرة قد سبق الخلاف فيها هل هي علة صحيحة في نفسها أم لا ؟ فإن قلنا : ليست صحيحة لم تعارض المتعدية ، فلا ترجيح كغير المطردة مع المطردة ، وإن قلنا : هي صحيحة ، فاجتمعت مع المتعدية ففيه أقوال : [ ص: 721 ] أحدها : أنهما سواء في الحكم لا رجحان لإحداهما على الأخرى " لقيام الدليل على صحتها " كما تقدم في موضعه .

                الثاني : أن القاصرة أرجح ، فتقدم لوجهين :

                أحدهما : أنها مطابقة للنص في موردها ، أي : لم يجاوز تأثيرها موضع النص ، بخلاف المتعدية ، فإنها لم تطابق النص ، بل زادت عليه ، وما طابق النص كان أولى .

                الوجه الثاني : " أمن صاحبها " - أي المعلل بها - " من الخطأ " ، لأنه لا يحتاج إلى التعليل بها في غير محل النص كالمتعدية ، فربما أخطأ بالوقوع في بعض مثارات الغلط في القياس ، وما أمن فيه من الخطأ أولى مما كان عرضة له .

                القول الثالث : أن " المتعدية " أرجح ، فتقدم " لكثرة فوائدها " ، كالتعليل في الذهب والفضة بالوزن ، فيتعدى الحكم إلى كل موزون ، كالحديد والنحاس والصفر ونحوه ، بخلاف التعليل بالثمنية أو النقدية ، فلا تتعداهما ، فكان التعليل بالوزن الذي هو وصف متعد لمحل النقدين إلى غيرهما أكثر فائدة من الثمنية القاصرة عليهما لا تجاوزهما . " فعلى هذا " - أي : فعلى القول بترجيح المتعدية - ترجح العلة التي هي أكثر فروعا على التي هي أقل فروعا .

                مثاله : لو قدرنا أن المكيلات أكثر ; عللنا في البر بالكيل ، لأن علة الكيل حينئذ تكون أكثر فروعا . ولو قدرنا أن المطعومات أكثر ; عللنا فيه [ ص: 722 ] بالطعم ، لأنه حينئذ يكون أكثر فروعا . وحينئذ يصير الأقل فروعا بالإضافة إلى الأكثر فروعا كالقاصرة بالإضافة إلى المتعدية ، ويخرج فيهما بالتفريع العام الأقوال الثلاثة .

                قوله : " ومنه " - أي : ومن الترجيح بكثرة الفروع - " ترجيح " العلة " ذات الوصف " الواحد " على ذات الوصفين " فصاعدا ، لأن ذات الوصف الواحد أكثر فروعا ، لأن ثبوت الحكم بها متوقف على وصف واحد ، وما توقف على وصف واحد ، كان أكثر فروعا مما توقف على وصفين فأكثر ، وصار هذا كالطلاق والعتق المعلق على شروط . وكذلك الأحكام التي تثبت بشاهد أقرب وقوعا مما تثبت بشاهدين ، وما يثبت بشاهدين أقرب وقوعا مما يثبت بأربعة ، فالموقوف على الأقل أكثر ، وعلى الأكثر أقل ، ولهذا كان الزيادة في الحد نقصا في المحدود ، والنقص في الحد زيادة في المحدود ، فالحيوان المشاء أكثر من الإنسان ، والحيوان الكاتب بالفعل أقل من الإنسان .

                قوله : " ورد " ، أي : ورد ترجيح ذات الوصف " بأن ذات الوصفين قد تكون أكثر فروعا " .

                قلت : وهذا لا يتصور إلا بحسب كثرة موارد فروع ذات الوصفين ، وقلة موارد فروع ذات الوصف على سبيل الاتفاق . مثل أن نعلل الربا في البر بالكيل وحده ، ويعلل غيرنا بالكيل مع الطعم ، ويتفق أن المكيلات المطعومة أكثر من المكيلات غير المطعومة . فحينئذ تكون فروع ذات الوصفين أكثر من فروع ذات الوصف الواحد ، وإلا فمتى فرضنا اتفاق موارد فروعهما في القلة والكثرة ، كانت فروع ذات الوصف الواحد أكثر بالضرورة لما حققناه .

                [ ص: 723 ] مثل : إن فرضنا أصناف المكيل مع المجرد عشرين ، وأصناف المكيل مع المطعوم عشرين أيضا ، فإن علة الكيل تجري في الأربعين صنفا ، وعلة الكيل مع الطعم لا تجري إلا في أصنافها العشرين التي وجدت فيها ، والله تعالى أعلم بالصواب .

                قوله : " ولا مدخل للكلام في القاصرة والمتعدية في ترجيح الأقيسة ، وإنما فائدته إمكان القياس بتقدير تقديم المتعدية ، كالوزن في النقدين وعدمه بتقدير تقديم القاصرة ، كالثمنية فيهما ، إذ القاصر لا يتعدى محله ليقاس عليه " .

                قلت : معنى هذا : أن الكلام في ترجيح العلة المتعدية على القاصرة أو بالعكس ، لا مدخل له في ترجيح الأقيسة ، أي : لا ينبني عليه ترجيح قياس إحدى هاتين العلتين على الأخرى ، لأن القاصرة لا تتعدى محلها ليقاس عليه غيره ، وإنما فائدة الكلام في ترجيح القاصرة والمتعدية إمكان القياس إن قدمنا المتعدية ، وعدم إمكانه إن قدمنا القاصرة .

                مثاله : أنه لما تعارض في النقدين الوزن والثمنية ، فإن عللنا بالوزن أمكن القياس لتعدي الوزن محل النقدية إلى الرصاص والنحاس ونحوه . فنقول : يحرم التفاضل في ذلك بالقياس بجامع الوزن . وإن عللنا بالثمنية أو النقدية لا يمكن القياس ، لأن تلك العلة لا توجد في غيرهما ليقاس عليهما .

                وهذا الكلام خرج مخرج جواب سؤال مقدر ، وهو أن يقال : العلة القاصرة لا يمكن القياس عليها ، فالكلام في الترجيح بينها وبين العلة [ ص: 724 ] المتعدية لا يتعلق بترجيح الأقيسة ، إذ الترجيح إنما يكون من موجودين ، والقياس على القاصرة غير موجود ولا ممكن ، فكيف يصح الترجيح بينه وبين القياس على العلة المتعدية ؟

                فكان الجواب عن ذلك بما ذكرنا ، وهو أنه ليس فائدة ذلك ترجيح أحد القياسين على الآخر لما ذكرتم ، بل فائدته أنا إن رجحنا المتعدية ، أمكن القياس ، وإلا فلا .

                قوله : " ويقدم الحكم الشرعي واليقيني على الوصف الحسي والإثباتي عند قوم ، وقيل : الحق التسوية " .

                أي : إذا تعارض قياسان والجامع في أحدهما حكم شرعي ، وفي الآخر وصف حسي أو الجامع في أحدهما حكم سلبي ، وفي الآخر حكم إثباتي ، فالحكم الشرعي مقدم على الوصف الحسي ، لأن القياس طريق شرعي لا حسي ، فكان الاعتماد فيه على الأحكام الشرعية أولى من الاعتماد على الأوصاف الحسية ، وكذلك الحكم السلبي مقدم على الثبوتي ، لأنه أوفق للأصل ، إذ الأصل عدم الأشياء كلها . هذا عند بعض الأصوليين .

                وقال آخرون : الحق أنهما سواء . يعني الحكم الشرعي مع الوصف الحسي ، والحكم السلبي مع الإثباتي ، لأن الدليل لما قام على علية كل واحد من الأمرين ، ثبتت عليته ، والظن لا يتفاوت بشيء مما ذكرنا ، فاستويا لعدم ما يصلح مرجحا ، وأبو الخطاب يرجح العلة الحكمية ، والقاضي يرجح الحسية .

                قوله : " والمؤثر " ، أي : ويرجح " المؤثر على الملائم ، والملائم على الغريب " .

                [ ص: 725 ] قلت : لأن قوتها في أنفسها على هذا الترتيب . وقد سبق حقائقها وأحكامها وصفاتها ومراتبها في القسم الثالث من أقسام طريق إثبات العلة عند ذكر أقسام المناسب .

                قوله : " والمناسب " ، أي : ويقدم " المناسب على الشبهي " . يعني إذا دارت علة القياس بين وصف مناسب وشبهي ; قدم المناسب ، لأنه متفق عليه ، والمصلحة فيه ظاهرة ، بخلاف الشبهي فيهما .




                الخدمات العلمية