الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " ويؤمهم أقرؤهم ، وأفقههم ، لقوله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم فإن لم يجتمع ذلك في واحد فإن قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفى به في الصلاة فحسن ، وإن قدم أقرؤهم إذا علم ما يلزمه فحسن ، ويقدم هذا على أسن منهما وإنما قيل : يؤمهم أقرؤهم أن من مضى كانوا يسلمون كبارا فيتفقهون قبل أن يقرءوا ، ومن بعدهم كانوا يقرءون صغارا قبل أن يتفقهوا ، فإن استووا أمهم أسنهم ، فإن استووا فقدم ذو النسب فحسن ، وقال في القديم : فإن استووا فأقدمهم هجرة ، وقال فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأئمة من قريش [ ص: 352 ] قال الماوردي : وهو كما قال : ينبغي أن يتقدم إلى الإمامة من جمع أوصافها ، وهي خمسة : القراءة ، والفقه ، والنسب ، والسن ، والهجرة بعد صحة الدين ، وحسن الاعتقاد ، فمن جمعها ، وكملت فيه فهو أحق بالإمامة ممن أخل ببعضها : لأن الإمامة منزلة اتباع واقتداء فاقتضى أن يكون متحملها كامل الأوصاف المعتبرة فيها ، فإن لم تجتمع في واحد فأحقهم بالإمامة من اختص بأفضلها ، وأولها الفقه والقراءة أولى بالإمامة ، وأحق بالتقدم من الشرف ، والسن ، والهجرة ، وإنما كان الأقرأ ، والأفقه أولى بالإمامة من الشرف والسن وقديم الهجرة إذا لم يكونوا فقهاء ولا قراء ، لما روى عمرو بن سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل ولما روى أبو مسعود بن عتبة بن عامر البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله عز وجل ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، وإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة وإن الفقه والقراءة يختصان بالصلاة لأن القراءة من شرائطها ، والفقه لمعرفة أحكامها والنسب والسن لا تختص به الصلاة ، فكان تقديم ما اختص بالصلاة أولى ، فإذا ثبت صح بما ذكرنا تقديم الأقرأ ، أو الأفقه ، فالفقيه إذا كان يحسن الفاتحة أولى بالإمامة من القارئ : لأن ما يجب من القراءة محصور ، وما يحتاج إليه من الفقه غير محصور : لكثرة أحكامها ، ووقوع حوادثها .

                                                                                                                                            وإن قيل هذا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم : " يؤمكم أقرؤكم " ، قلنا : هذا غير مخالف له : لأن ذلك خطاب للصحابة ، رضي الله عنهم ، وهو خارج على حسب حالهم ، وكان أقرؤهم في ذلك الزمان أفقههم ، بخلاف هذا الزمان ، لأنهم كانوا يتفقهون ، ثم يقرءون ومن في زماننا يقرءون ، ثم يتفقهون .

                                                                                                                                            والدليل على ذلك ما روي عن ابن عمر أنه قال : ما كانت تنزل السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ونعلم أمرها وزجرها ونهيها ، والرجل اليوم يقرأ السورة من أولها إلى آخرها ولا يعرف من أحكامها شيئا ، وقال ابن مسعود : ما كنا نجوز على عشر آيات حتى نعرف حلالها ، وحرامها ، وأمرها ، ونهيها ، فإذا تقرر تقديم الأفقه ، ثم الأقرأ فاستووا في الفقه ، والقراءة فلا يختلف المذهب أن ذا النسب الشريف أولى من ذي الهجرة القديمة .

                                                                                                                                            وهل يكون أولى من ذي النسب على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما قاله في القديم : إن ذا النسب الشريف أولى من المسن لقوله صلى الله عليه وسلم : الأئمة من [ ص: 353 ] قريش وقوله صلى الله عليه وسلم : قدموا قريشا ، ولا تتقدموها ، وتعلموا منها ولا تعلموها .

                                                                                                                                            والقول الثاني قاله في الجديد : إن المسن أولى من ذي النسب لرواية مالك ، عن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين اللذين أتياه : أذنا ، وأقيما ، وليؤمكما أكبركما وقال صلى الله عليه وسلم : الشيب وقار وإن الله تبارك وتعالى يقول : إني لأستحي من عبدي ، وأمتي يشيبان في الإسلام أن أعذبهما بالنار ولأن المسن أسكن نفسا ، وأكثر خشوعا لكثرة صلاته ، وقلة شهواته ، فإن استوت أحوالهم ، واتفقت أصواتهم فهم في الإمامة سواء .

                                                                                                                                            ومن أصحابنا من قال : يقدم أحسنهم وجها : لرواية إسماعيل بن عياش ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤمكم أحسنكم وجها ، فإنه أحرى أن يكون أحسنكم خلقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية