الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ دية الجنين ]

ومما يدخل في هذا الباب من أنواع الخطأ دية الجنين ; وذلك لأن سقوط الجنين عن الضرب ليس هو عمدا محضا ، وإنما هو عمد في أمه خطأ فيه .

والنظر في هذا الباب هو أيضا في الواجب في ضروب الأجنة وفي صفة الجنين الذي يجب فيه الواجب ، وعلى من تجب ، ولمن يجب ، وفي شروط الوجوب .

فأما الأجنة فإنهم اتفقوا على أن الواجب في جنين الحرة وجنين الأمة من سيدها هو غرة لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وغيره : " أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها " فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة عبد أو وليدة " .

واتفقوا على أن قيمة الغرة الواجبة في ذلك عند من رأى أن الغرة في ذلك محدودة بالقيمة - وهو مذهب الجمهور - هي نصف عشر دية أمه ، إلا أن من رأى أن الدية الكاملة على أهل الدراهم هي عشرة [ ص: 733 ] آلاف درهم ، قال : دية الجنين خمسمائة درهم ، ومن رأى أنها اثنا عشر ألف درهم قال : ستمائة درهم ، والذين لم يحدوا في ذلك حدا أو لم يحدوها من جهة القيمة وأجازوا إخراج قيمتها عنها قالوا : الواجب في ذلك قيمة الغرة بالغة ما بلغت ، وقال داود وأهل الظاهر : كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ ، ولا يجزئ عنده القيمة في ذلك فيما أحسب .

واختلفوا في الواجب في جنين الأمة وفي جنين الكتابية ، فذهب مالك ، والشافعي إلى أن جنين الأمة عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى يوم يجنى عليه ، وفرق قوم بين الذكر والأنثى ، فقال قوم : إن كان أنثى فيه عشر قيمة أمه ، وإن كان ذكرا فعشر قيمته لو كان حيا ، وبه قال أبو حنيفة ، ولا خلاف عندهم أن جنين الأمة إذا سقط حيا أن فيه قيمته ، وقال أبو يوسف : في جنين الأمة إذا سقط ميتا منها ما نقص من قيمة أمه .

وأما جنين الذمية ، فقال مالك والشافعي ، وأبو حنيفة : فيه عشر دية أمه ، لكن أبو حنيفة على أصله في أن دية الذمي دية المسلم ، والشافعي على أصله في أن دية الذمي ثلث دية المسلم ، ومالك على أصله في أن دية الذمي نصف دية المسلم .

وأما صفة الجنين الذي تجب فيه فإنهم اتفقوا على أن من شروطه أن يخرج الجنين ميتا ولا تموت أمه من الضرب . واختلفوا إذا ماتت أمه من الضرب ثم سقط الجنين ميتا ، فقال مالك والشافعي : لا شيء فيه ، وقال أشهب : فيه الغرة ، وبه قال الليث ، وربيعة ، والزهري .

واختلفوا من هذا الباب في فروع ، وهي العلامة التي تدل على سقوطه حيا أو ميتا . فذهب مالك وأصحابه إلى أن علامة الحياة الاستهلال بالصياح أو البكاء . وقال الشافعي وأبو حنيفة ، والثوري وأكثر الفقهاء : كل ما علمت به الحياة في العادة من حركة أو عطاس أو تنفس فأحكامه أحكام الحي ، وهو الأظهر .

واختلفوا من هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة ، فقال مالك : كل ما طرحته من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة ، وقال الشافعي : لا شيء فيه حتى تستبين الخلقة . والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه ( أعني : أن يكون تجب فيه الغرة إذا علم أن الحياة قد كانت وجدت فيه ) .

وأما على من تجب ؟ فإنهم اختلفوا في ذلك ، فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي والحسن البصري : هي في مال الجاني ، وقال آخرون : هي على العاقلة ، وممن قال بذلك الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري وجماعة . وعمدتهم أنها جناية خطأ فوجبت على العاقلة . وما روي أيضا عن جابر بن عبد الله : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في الجنين غرة على عاقلة الضارب وبدأ بزوجها وولدها " . وأما مالك فشبهها بدية العمد إذا كان الضرب عمدا .

وأما لمن تجب ؟ فقال مالك والشافعي ، وأبو حنيفة : هي لورثة الجنين ، وحكمها حكم الدية في أنها موروثة ، وقال ربيعة والليث : هي للأم خاصة ، وذلك أنهم شبهوا جنينها بعضو من أعضائها .

ومن الواجب الذي اختلفوا فيه في الجنين مع وجوب الغرة وجوب الكفارة ، فذهب الشافعي إلى أن فيه الكفارة واجبة ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس فيه كفارة واستحسنها مالك ولم يوجبها .

[ ص: 734 ] فأما الشافعي فإنه أوجبها ; لأن الكفارة عنده واجبة في العمد والخطأ . وأما أبو حنيفة فإنه غلب عليه حكم العمد ، والكفارة لا تجب عنده في العمد . وأما مالك فلما كانت الكفارة لا تجب عنده في العمد وتجب في الخطأ ، وكان هذا مترددا عنده بين العمد والخطأ استحسن فيه الكفارة ولم يوجبها .

التالي السابق


الخدمات العلمية