الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  16 1 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله)، وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: محمد بن المثنى بلفظ المفعول من التثنية بالمثلثة ابن عبيد بن قيس بن دينار أبو موسى العنزي البصري المعروف بالزمن سمع ابن عيينة، ووكيع بن الجراح، وإسماعيل بن علية، والقطان، وغيرهم، روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن يحيى الذهلي، والمحاملي، قال الخطيب: كان ثقة ثبتا يحتج سائر الأئمة بحديثه، وقدم بغداد، وحدث بها، ثم رجع إلى البصرة فمات بها، قال غيره: سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وولد هو وبندار بالسنة التي مات فيها حماد بن سلمة سنة سبع وستين ومائة، روى عنه الجماعة، وروى الترمذي أيضا، عن رجل عنه، وقال: لا بأس به.

                                                                                                                                                                                  الثاني: عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن أبي عبيد بن الحكم بن أبي العاصي بن بشر بن عبد الله بن دهمان بن عبد همام بن أبان بن يسار بن مالك بن خطيط بن جشم بن قسي، وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس غيلان الثقفي البصري، سمع يحيى الأنصاري، وأيوب السختياني، وخلقا، روى عنه محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أحمد، وابن معين، وابن المديني، وثقه يحيى، والعجلي، وقال ابن سعد: كان ثقة، وفيه ضعف، ولد سنة ثمان ومائة، وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة، وقال خليفة بن خياط: اختلط قبل موته بثلاث سنين أو أربع سنين، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أيوب بن أبي تميمة، واسمه كيسان السختياني البصري مولى عزة، ويقال: جهينة، ومواليه حلفاء بني جريش رأى أنس بن مالك، وسمع عمر بن سلمة الجرمي، وأبا عثمان [ ص: 147 ] النهدي، والحسن، ومحمد بن سيرين، وأبا قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، ومجاهدا، وخلقا كثيرا، روى عنه محمد بن سيرين، وعمرو بن دينار، وقتادة، والأعمش، ومالك، والسفيانان، والحمادان، وروى عنه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه أيضا، وقال ابن المديني: له نحو ثمانمائة حديث، وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال إسماعيل بن علية، ولد سنة ست وستين، وقال البخاري عن علي بن المديني: مات بالبصرة سنة إحدى وثلاثين ومائة زاد غيره، وهو ابن ثلاث وستين، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الرابع: أبو قلابة بكسر القاف، وبالباء الموحدة، واسمه عبد الله بن زيد بن عمرو، وقيل: عامر بن نائل بن مالك الجرمي البصري سمع ثابت بن قيس بن الضحاك الأنصاري، وأنس بن مالك الأنصاري، وغيرهم من الصحابة، روى عن أيوب وقتادة، ويحيى ابن أبي كثير اتفق على توثيقه، توفي بالشام سنة أربع ومائة، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وقد مر ذكره.

                                                                                                                                                                                  (بيان الأنساب) العنزي، بفتح العين المهملة، والنون، وبالزاي نسبة إلى عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان حي من ربيعة. والثقفي بالثاء المثلثة، والقاف، بعدها الفاء نسبة إلى ثقيف، وهو قسي بن منبه، وقد ذكرناه الآن.

                                                                                                                                                                                  والسختياني، بفتح السين المهملة نسبة إلى بيع السختيان، وهو الجلد، وقال الجوهري: سمي بذلك; لأنه كان يبيع الجلود. قال صاحب المطالع: ومنهم من يضم السين، وقال بعضهم: حكي ضم السين وكسرها. قلت: هذا اللفظ أعجمي، ولم يسمع منهم إلا فتح السين، والجرمي، بفتح الجيم في قبائل، ففي قضاعة جرم بن ريان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وفي بجيلة جرم بن علقمة بن عبقر، وفي عاملة جرم بن شعل بن معاوية، وفي طي جرم، وهو ثعلبة بن عمرو بن الغوث بن طي.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث، والعنعنة، ومنها أن رواته كلهم بصريون، ومنها أن كلهم أئمة أجلاء على ما ذكرنا.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري هنا ومسلم أيضا كلاهما، عن محمد بن المثنى إلى آخره بهذا الإسناد، وأخرجه في هذا الباب أيضا بعد ثلاثة أبواب من طريق شعبة، عن قتادة، عن أنس، واستدل به على فضل من أكره على الكفر فترك التقية إلى أن قتل، وأخرجه من هذا الوجه في الأدب في فضل الحب في الله، ولفظ هذه الرواية: " وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه. " وهي أبلغ من لفظ حديث الباب; لأنه سوى فيه بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الأخرى، وكذا رواه مسلم من هذا الوجه، وفي رواية للبخاري ومسلم: من كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي والنسائي أيضا في رواية أخرى: ثلاث من كن فيه، وجد حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله، ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب في الله، ويبغض في الله، وأن يوقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئا.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات). قوله: " حلاوة الإيمان " الحلاوة مصدر حلا الشيء يحلو، وهو نقيض المر، واحلولى مثله، وأحليت الشيء جعلته حلوا، وأحليته أيضا وجدته حلوا، وحاليته، أي: طايبته، والحلوى نقيض المرى يقال: خذ الحلوى، وأعطه المرى، وتحالت المرأة إذا أظهرت حلاوة وعجبا، وأما حلوت فلانا على كذا مالا، فأنا أحلوه حلوا وحلوانا، فمعناه: وهبت له شيئا على شيء يفعله لك غير الأجرة، وأما حليت المرأة أحليها حليا، وحلوتها فمعناها جعلت لها حليا، ويقال: حلي فلان يعني بالكسر، وفي عيني، وبصدري - أو: في صدري - يحلى حلاوة إذا أعجبك، قال الراجز:


                                                                                                                                                                                  إن سراجا لكريم مفخرة تحلى به العين إذا ما تجهره

                                                                                                                                                                                  وهذا من المقلوب، والمعنى يحلى بالعين، وكذلك حلا فلان بعيني وفي عيني يحلو حلاوة. وقال الأصمعي حلى في عيني بالكسر، وحلا في فمي بالفتح، وحليت الرجل وصفت حليته، وحليت الشيء في عين صاحبه، وحليت الطعام جعلته حلوا، والحلواء التي تؤكل تمد وتقصر. وأما معنى الحلاوة في الحديث، فقال التيمي: حسنه، وقال النووي: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ [ ص: 148 ] الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وإيثار ذلك على أعراض الدنيا، ومحبة العبد الله تعالى بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: تفسير التيمي من الحلاوة التي بابها من حلى فلان بعيني حلاوة إذا حسن، وتفسير النووي من حلا الشيء يحلو حلوا وحلاوة، وهو نقيض المر، ولكل منهما وجه، والأظهر الثاني: على ما لا يخفى قوله: " يكره " من كرهت الشيء أكرهه كراهة وكراهية، فهو شيء كريه ومكروه، ومعناه عدم الرضا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن يقذف " من القذف بمعنى الرمي، وقال الصغاني: التركيب يدل على الرمي والطرح، والقذف بالحجارة الرمي بها، وقذف المحصنة قذفا، أي: رماها، ويقل: هم بين خاذف وقاذف، فالخاذف بالحصى، والقاذف بالحجارة.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب). قوله: " ثلاث " مرفوع على أنه مبتدأ. فإن قلت: هو نكرة، كيف يقع مبتدأ. قلت: النكرة تقع مبتدأة بالمسوغ، وهاهنا ثلاثة وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: أن يكون التنوين في ثلاث عوضا، عن المضاف إليه تقديره: ثلاث خصال، فحينئذ يقرب من المعرفة.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن يكون هذا صفة لموصوف محذوف تقديره خصال ثلاث، والموصوف هو المبتدأ في الحقيقة، فلما حذف قامت الصفة مقامه.

                                                                                                                                                                                  الثالث: يجوز أن يكون ثلاث موصوفا بالجملة الشرطية التي بعده، والخبر على هذا الوجه هو قوله: " أن يكون " ، وأن مصدرية، والتقدير: كون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وعلى التقديرين الأولين الخبر هو الجملة الشرطية; لأن قوله: " من " مبتدأ موصول، يتضمن معنى الشرط، وقوله: " كن " فيه جملة صلته، وقوله: " وجد " خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول. فإن قلت: الجملة إذا وقعت خبرا فلا بد من ضمير فيها يعود إلى المبتدأ; لأن الجملة مستقلة بذاتها، فلا يربطها بما قبلها إلا الضمير، وليس هاهنا ضمير يعود إليه، والضمير في فيه يرجع إلى من لا إلى ثلاث. قلت: العائد هاهنا محذوف تقديره: ثلاث من كن فيه منها وجد حلاوة الإيمان، كما في قولك: البر الكر بستين، أي: منه، وقال ابن يعيش في قوله تعالى: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور إن من مبتدأ، وصلته صبر، وخبره إن المكسورة مع ما بعدها، والعائد محذوف تقديره إن ذلك منه. فإن قلت: إذا جعلت الجملة خبرا فما يكون إعراب قوله: " أن يكون الله "؟ قلت: يجوز فيه الوجهان: أحدهما: أن يكون بدلا من ثلاث، والآخر أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: أحد الذين فيهم الخصال الثلاث أن يكون الله... إلخ.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وجد " بمعنى أصاب، فلذلك اكتفى بمفعول واحد، وهو قوله: " حلاوة الإيمان " .

                                                                                                                                                                                  قوله: " ورسوله " بالرفع عطف على لفظة " الله " الذي هو اسم يكون.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أحب " بالنصب; لأنه خبر يكون. فإن قلت: كان ينبغي أن يثني أحب حتى يطابق اسم كان، وهو اثنان. قلت: أفعل التفضيل إذا استعمل بمن فهو مفرد مذكر لا غير، فلا يحتاج إلى المطابقة. فإن قلت: أفعل التفضيل مع من كالمضاف والمضاف إليه. فلا يجوز الفصل بينهما. قلت: أجيز ذلك بالظرف للاتساع.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأن يحب المرء " عطف على أن يكون الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يحب " جملة من الفعل والفاعل، وهو الضمير فيه الذي يرجع إلى من. وقوله " المرء " بالنصب مفعوله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لا يحبه إلا لله " جملة وقعت حالا بدون الواو، وقد علم أن الفعل المضارع إذا وقع حالا، وكان منفيا يجوز فيه الواو، وتركه نحو جاءني زيد لا يركب أو ولا يركب.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأن يكره " عطف على أن يحب.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن يعود " جملة في محل النصب على أنها مفعول لقوله: " يكره "، وأن يكره، وأن مصدرية، تقديره: وأن يكره العود. فإن قلت: المشهور أن يقال عاد إليه معدى بإلى لا بفي. قلت: قال الكرماني: قد ضمن فيه معنى الاستقرار، كأنه قال أن يعود مستقرا فيه، وهذا تعسف، وإنما في هذا بمعنى إلى كما في قوله تعالى: أو لتعودن في ملتنا أي: تصيرن إلى ملتنا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " كما يكره " الكاف للتشبيه بمعنى مثل، وما مصدرية، أي: مثل كرهه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن يقذف " في محل النصب; لأنه مفعول يكره، وأن مصدرية، أي: القذف، وهو على صيغة المجهول فافهم.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني) قال النووي: هذا حديث عظيم أصل من أصول الإسلام. قلت: كيف لا وفيه محبة الله ورسوله التي هي أصل الإيمان بل عينه، ولا تصح محبة الله ورسوله حقيقة، ولا حب لغير الله ولا كراهة الرجوع في الكفر إلا لمن قوي الإيمان في نفسه، وانشرح له صدره، وخالطه دمه ولحمه، وهذا هو الذي وجد حلاوته، والحب في الله من ثمرات الحب لله، وقال ابن بطال: محبة العبد لخالقه التزام طاعته، والانتهاء عما نهى عنه، ومحبة الرسول كذلك، وهي التزام [ ص: 149 ] شريعته، وقال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه فيحب ما أحب، ويكره ما يكره. قال القاضي عياض: ومعنى حب الله الاستقامة في طاعته، والتزام أوامره ونواهيه في كل شيء، والمراد ثمرات المحبة; فإن أصل المحبة الميل لما يوافق المحبوب، والله سبحانه منزه أن يميل أو يمال إليه، وأما محبة الرسول فيصح فيها الميل إذ ميل الإنسان لما يوافقه، إما للاستحسان كالصورة الجميلة، والمطاعم الشهية وشبههما، أو لما يستلذه بعقله من المعاني والأخلاق كمحبة الصالحين والعلماء، وإن لم يكن في زمانهم أو لمن يحسن إليه، ويدفع المضرة عنه، وهذه المعاني كلها موجودة في حق النبي صلى الله عليه وسلم من كمال الظاهر، والباطن، وجمعه الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم، وإبعادهم عن الجحيم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله " هذا حث على التحاب في الله; لأجل أن الله جعل المؤمنين إخوة. قال الله تعالى: فأصبحتم بنعمته إخوانا

                                                                                                                                                                                  ومن محبته ومحبة رسوله محبة أهل ملته، فلا تحصل حلاوة الإيمان إلا أن تكون خالصة لله تعالى غير مشوبة بالأغراض الدنيوية، ولا الحظوظ البشرية، فإن من أحب لذلك انقطعت تلك المحبة عند انقطاع سببها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأن يكره " إلى آخره، معناه أن هذه الكراهة إنما توجد عند وجود سببها، وهو ما دخل قلبه من نور الإيمان، ومن كشف له عن محاسن الإسلام، وقبح الجهالات والكفران. وقيل: المعنى: أن من وجد حلاوة الإيمان، وعلم أن الكافر في النار يكره الكفر لكراهته لدخول النار. قلت: وقائل هذا المعنى حافظ على بقاء لفظ العود على معناه الحقيقي، ومعناه هنا معنى الصيرورة. قال تعالى: وما يكون لنا أن نعود فيها

                                                                                                                                                                                  (بيان البيان). قوله: " حلاوة الإيمان " فيه استعارة بالكناية، وذلك لأن الحلاوة إنما تكون في المطعومات، والإيمان ليس مطعوما، فظهر أن هذا مجاز; لأنه شبه الإيمان بنحو العسل، ثم طوى ذكر المشبه به; لأن الاستعارة هي أن يذكر أحد طرفي التشبيه مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به، فالمشبه إيمان، والمشبه به عسل ونحوه. والجهة الجامعة، وهو وجه الشبه الذي بينهما هو الالتذاذ وميل القلب إليه، فهذه هي الاستعارة بالكناية، ثم لما ذكر المشبه أضاف إليه ما هو من خواص المشبه به ولوازمه، وهو الحلاوة على سبيل التخيل، وهي استعارة تخييلية، وترشيح للاستعارة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " كما يكره أن يقذف في النار " تشبيه وليس باستعارة; لأن الطرفين مذكوران، فالمشبه هو العود في الكفر، والمشبه به وهو القذف في النار، ووجه الشبه هو وجدان الألم وكراهة القلب إياه.

                                                                                                                                                                                  (الأسئلة والأجوبة) منها ما قيل: ما الحكمة في كون حلاوة الإيمان في هذه الأشياء الثلاثة؟ وأجيب بأن هذه الأمور الثلاثة هي عنوان كمال الإيمان المحصل لتلك اللذة; لأنه لا يتم إيمان امرئ حتى يتمكن في نفسه أن المنعم بالذات هو الله سبحانه وتعالى، ولا مانح ولا مانع سواه، وما عداه تعالى وسائط ليس لها في ذاتها إضرار ولا إنفاع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو العطوف الساعي في صلاح شأنه، وذلك يقتضي أن يتوجه بكليته نحوه، ولا يحب ما يحبه إلا لكونه وسطا بينه وبينه، وأن يتيقن أن جملة ما أوعد ووعد حق تيقنا، يخيل إليه الموعود كالواقع، والاشتغال بما يؤول إلى الشيء ملابسة به فيحسب مجالس الذكر رياض الجنة، وأكل مال اليتيم أكل النار، والعود إلى الكفر إلقاء في النار.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: لم عبر عن هذه الحالة بالحلاوة؟ وأجيب: لأنها أظهر اللذات المحسوسة، وإن كان لا نسبة بين هذه اللذة واللذات الحسية.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: لم قيل: مما سواهما، ولم يقل: ممن سواهما؟ وأجيب بأن ما أعم بخلاف من فإنها للعقلاء فقط.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: كيف قال: سواهما بإشراك الضمير بينه وبين الله عز وجل، والحال أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على من فعل ذلك، وهو الخطيب الذي قال: ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس الخطيب أنت، وأجيب بأن هذا ليس من هذا; لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، ومما يدل عليه ما جاء في سنن أبي داود: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه. وقال القاضي عياض: وأما تثنية الضمير هاهنا فللإيماء على أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة فإنها وحدها ضائعة لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزامه الغواية; إذ العطف في تقرير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، وقال الأصوليون: أمر بالإفراد; لأنه أشد تعظيما، والمقام يقتضي ذلك، ويقال: إنه من الخصائص فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمتنع منه; لأن غيره إذا جمع أوهم [ ص: 150 ] إطلاقه التسوية بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، ويقال: إن كلامه صلى الله عليه وسلم هنا جملة واحدة، فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مقام المضمر، وكلام الذي خطب جملتان لا يكره إقامة الظاهر فيها مقام المضمر. ويقال: إن المتكلم لا يتوجه تحت خطاب نفسه إذا وجهه لغيره، ويقال: إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشرف من شاء بما شاء كما أقسم بكثير من مخلوقاته، وكذلك له أن يأذن لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويحجره على غيره، ويقال: العمل بخبر المنع أولى; لأن الخبر الآخر يحتمل الخصوص، ولأنه ناقل، والآخر مبني في الأصل، ولأنه قول، والثاني فعل.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية