الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ورد السلام وتشميت العاطس على [ ص: 415 ] الفور ويجب رد جواب كتاب التحية كرد السلام .

ولو قال لآخر : أقرئ فلانا السلام يجب عليه ذلك ، ويكره السلام على الفاسق لو معلنا وإلا لا كما يكره على عاجز عن الرد حقيقة كآكل أو شرعا كمصل وقارئ ولو سلم لا يستحق الجواب ا هـ وقدمنا في باب ما يفسد الصلاة كراهته في نيف وعشرين موضعا وأنه لا يجب رد سلام عليكم بجزم الميم [ ص: 416 ] ولو دخل ولم ير أحدا يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

التالي السابق


( قوله ورد السلام وتشميت العاطس على الفور ) ظاهره أنه إذا أخره لغير عذر كره تحريما ولا يرتفع الإثم بالرد بل بالتوبة ط وفي تبيين المحارم تشميت العاطس فرض على الكفاية عند الأكثرين وعند الشافعي سنة وعند بعض الظاهرية فرض عين قال النبي صلى الله عليه وسلم " { إن الله يحب العاطس ويكره التثاؤب فإذا عطس فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته } " رواه البخاري التشميت بالشين المعجمة أو بالسين المهملة هو الدعاء بالخير والبركة ، وإنما يستحق العاطس التشميت إذا حمد الله تعالى ، وأما إذا لم يحمد لا يستحق الدعاء ، لأن العطاس نعمة من الله تعالى ، فمن لم يحمد بعد عطاسه لم يشكر نعمة الله تعالى وكفران النعمة لا يستحق الدعاء والمأمور به بعد العطاس أن يقول : الحمد لله أو يقول الحمد لله رب العالمين ، وقيل الحمد لله على كل حال .

واختلفوا في ماذا يقول المشمت فقيل يقول يرحمك الله وقيل : الحمد لله تعالى ويقول للمشمت : يهديك الله ، وإن كان العاطس كافرا فحمد الله تعالى يقول المشمت يهديك الله ، وإذا تكرر العطاس قالوا يشمته ثلاثا ثم يسكت قال قاضي خان : فإن عطس أكثر من ثلاث يحمد الله تعالى في كل مرة ، ومن كان بحضرته يشمته في كل مرة فحسن أيضا ا هـ . وينبغي أن يقول العاطس للمشمت : غفر الله لي ولكم أو يقول : يهديكم الله ويصلح بالكم ولا يقول غير ذلك .

وينبغي للعاطس أن يرفع صوته بالتحميد ، حتى يسمع من عنده فيشمته ، ولو شمته بعض الحاضرين أجزأ عنهم ، والأفضل أن يقول كل واحد منهم لظاهر الحديث ، وقيل : إذا عطس رجل ولم يسمع منه تحميد يقول من حضره يرحمك الله إن كنت حمدت الله ، وإذا عطس من وراء الجدار ، فحمد الله تعالى يجب على كل من سمعه التشميت ا هـ .

وفي فصول العلامي وندب للسامع أن يسبق العاطس بالحمد لله لحديث " { من سبق العاطس بالحمد لله أمن من الشوص واللوص والعلوص } " ا هـ . وهو بفتح أول الأولين وكسر أول الثالث المهملة وفتح لامه المشددة ، وسكون الواو وآخر الجميع صاد مهملة .

وفي الأوسط للطبراني عن علي رفعه " { من عطس عنده فسبق بالحمد لم يشتك خاصرته } " وأخرج ابن عساكر " { من سبق العاطس بالحمد وقاه الله وجع الخاصرة ولم ير في فيه مكروها حتى يخرج من الدنيا } " ونظم بعضهم الحديث الأول فقال : من يبتدي عاطسا بالحمد يأمن من شوص ولوص وعلوص كذا وردا عنيت بالشوص داء الرأس ثم بما
يليه ذا البطن والضرس اتبع رشدا [ ص: 415 ] وفي المغرب الشوص : وجع الضرس ، واللوص : وجع الأذن ، والعلوص اللوي وهي التخمة ا هـ . قال في الشرعة : وينكس رأسه عند العطاس ، ويخمر وجهه ويخفض من صوته فإن التصرخ بالعطاس حمق وفي الحديث " { العطسة عند الحديث شاهد عدل } " ولا يقول العاطس أب أو أشهب فإنه اسم للشيطان ا هـ .

( قوله ويجب رد جواب كتاب التحية ) لأن الكتاب من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر مجتبى والناس عنه غافلون ط . أقول : المتبادر من هذا أن المراد رد سلام الكتاب لا رد الكتاب . لكن في الجامع الصغير للسيوطي رد جواب الكتاب حق كرد السلام قال شارحه المناوي : أي إذا كتب لك رجل بالسلام في كتاب ووصل إليك وجب عليك الرد باللفظ أو بالمراسلة وبه صرح جمع شافعية ; وهو مذهب ابن عباس وقال النووي : ولو أتاه شخص بسلام من شخص أي في ورقة وجب الرد فورا ; ويستحب أن يرد على المبلغ كما أخرجه النسائي ، ويتأكد رد الكتاب فإن تركه ربما أورث الضغائن ولهذا أنشد :

إذا كتب الخليل إلى الخليل
فحق واجب رد الجواب إذا الإخوان فاتهم التلاقي
فما صلة بأحسن من كتاب



( قوله يجب عليه ذلك ) لأنه من إيصال الأمانة لمستحقها ، والظاهر أن هذا إذا رضي بتحملها تأمل .

ثم رأيت في شرح المناوي عن ابن حجر التحقيق أن الرسول إن التزمه أشبه الأمانة وإلا فوديعة ا هـ . أي فلا يجب عليه الذهاب لتبليغه كما في الوديعة قال الشرنبلالي : وهكذا عليه تبليغ السلام إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الذي أمره به ; وقال أيضا : ويستحب أن يرد على المبلغ أيضا فيقول : وعليك وعليه السلام ا هـ . ومثله في شرح تحفة الأقران للمصنف ، وزاد وعن ابن عباس يجب ا هـ . لكن قال في التتارخانية ذكر محمد حديثا يدل على أن من بلغ إنسانا سلاما عن غائب كان عليه أن يرد الجواب على المبلغ أولا ثم على ذلك الغائب ا هـ . وظاهره الوجوب تأمل ( قوله لو معلنا ) تخصيص لما قدمه عن العيني ; وفي فصول العلامي : ولا يسلم على الشيخ المازح الكذاب واللاغي ; ولا على من يسب الناس أو ينظر وجوه الأجنبيات ، ولا على الفاسق المعلن ، ولا على من يغني أو يطير الحمام ما لم تعرف توبتهم ويسلم على قوم في معصية وعلى من يلعب بالشطرنج ناويا أن يشغلهم عما هم فيه عند أبي حنيفة وكره عندهما تحقيرا لهم ( قوله كآكل ) ظاهره أن ذلك مخصوص بحال وضع اللقمة في الفم والمضغ وأما قبل وبعد فلا يكره لعدم العجز وبه صرح الشافعي ، وفي وجيز الكردري مر على قوم يأكلون إن كان محتاجا وعرف أنهم يدعونه سلم وإلا فلا ا هـ . وهذا يقضي بكراهة السلام على الآكل مطلقا إلا فيما ذكره ط ( قوله ولو سلم لا يستحق الجواب ) أقول : في البزازية : وإن سلم في حال التلاوة فالمختار أنه يجب الرد بخلاف حال الخطبة والأذان وتكرار الفقه ا هـ . وإن سلم فهو آثم تتارخانية . وفيها والصحيح أنه لا يرد في هذه المواضع ا هـ . فقد اختلف التصحيح في القارئ وعند أبي يوسف يرد بعد الفراغ أو عند تمام الآية وفي الاختيار ، وإذا جلس القاضي ناحية من المسجد للحكم لا يسلم على الخصوم ، ولا يسلم عليه ; لأنه جلس للحكم والسلام تحية الزائرين . فينبغي أن يشتغل بما جلس لأجله ، وإن سلموا لا يجب عليه الرد وعلى هذا من جلس يفقه تلامذته ويقرئهم القرآن فدخل عليه داخل فسلم وسعه أن لا يرد لأنه إنما جلس للتعليم لا لرد السلام ا هـ .

( قوله بجزم الميم ) الأولى بسكون الميم قال ط : وكأن عدم الوجوب لمخالفته السنة التي جاءت بالتركيب العربي ومثله فيما يظهر الجمع [ ص: 416 ] بين أل والتنوين ا هـ . وظاهر تقييده بجزم الميم أنه لو نون المجرد من أل كما هو تحية الملائكة لأهل الجنة يجب الرد فيكون له صيغتان ، وهو ظاهر ما قدمناه سابقا عن التتارخانية ، ثم رأيت في الظهيرية ولفظ السلام في المواضع كلها : السلام عليكم أو سلام عليكم بالتنوين ، وبدون هذين كما يقول الجهال ، لا يكون سلاما قال الشرنبلالي في رسالته في المصافحة : ولا يبتدئ بقوله عليك السلام ، ولا بعليكم السلام لما في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن جابر بن سليم رضي الله تعالى عنه قال : { أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت عليك السلام يا رسول الله قال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى } " قال الترمذي حديث حسن صحيح ، ويؤخذ منه أنه لا يجب الرد على المبتدئ بهذه الصيغة ، فإنه ما ذكر فيه أنه عليه الصلاة والسلام رد السلام عليه بل نهاه ، وهو أحد احتمالات ثلاثة ذكرها النووي ، فيترجح كونه ليس سلاما ، وإلا لرد عليه ثم علمه كما رد على المسيء صلاته ثم علمه ، ولو زاد واوا فابتدأ بقوله : وعليكم السلام لا يستحق جوابا لأن هذه الصيغة لا تصلح للابتداء فلم يكن سلاما قاله المتولي من أئمة الشافعية ا هـ .

قلت : وفي التتارخانية عن الفقيه أبي جعفر : أن بعض أصحاب أبي يوسف كان إذا مر بالسوق يقول : سلام الله عليكم فقيل له في ذلك فقال : التسليم تحية وإجابتها فرض ، فإذا لم يجيبوني وجب الأمر بالمعروف ، فأما سلام الله عليكم فدعاء فلا يلزمهم ، ولا يلزمني شيء فأختاره لهذا ا هـ .

قلت : فهذا مع ما مر يفيد اختصاص وجوب الرد بما إذا ابتدأ بلفظ السلام عليكم أو سلام عليكم وقدمنا أن للمجيب أن يقول في الصورتين سلام عليكم ، أو السلام عليكم ، ومفاده أن ما صلح للابتداء صلح للجواب ولكن علمت ما هو الأفضل فيهما .

[ تتمة ]

قال في التتارخانية ويسلم الذي يأتيك من خلفك ويسلم الماشي على القاعد والراكب على الماشي ، والصغير على الكبير ، وإذا التقيا فأفضلهما يسبقهما ، فإن سلما معا يرد كل واحد وقال الحسن : يبتدئ الأقل بالأكثر ا هـ . وفيها : السلام سنة ، ويفترض على الراكب المار بالراجل في طريق عام أو في المفازة للأمان ا هـ . وفي البزازية : ويسلم الآتي من المصر على من يستقبله من القرى ، وقيل يسلم القروي على المصري ا هـ .

وفي تبيين المحارم قال النووي : هذا الأدب هو فيما إذا التقيا في طريق ، أما إذا ورد على قعود فإن الوارد يبدأ بالسلام بكل حال ، سواء كان صغيرا أو كبيرا أو قليلا أو كثيرا كذا في الطبراني ا هـ . قال ط : والقواعد توافقه واختلفوا في أيهما أفضل أجرا قيل الراد وقيل المسلم محيط . وإن سلم ثانيا في مجلس واحد لا يجب رد الثاني تتارخانية وفيها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " { إذا أتيتم المجلس فسلموا على القوم وإذا رجعتم فسلموا عليهم فإن التسليم عند الرجوع أفضل من التسليم الأول } " ( قوله وعلى عباد الله الصالحين ) فيكون مسلما على الملائكة الذين معه ، وصالحي الجن الحاضرين وغيرهم وقالوا إن الجن مكلفون بما كلفنا به ومقتضاه أنه يجب عليهم الرد ولا يخرجون عنه إلا بالإسماع ، ولم أر حكمه وقد يقال إنهم أمروا بالاستتار عن أعين الإنس لعدم الأنس والمجانسة ورده ظاهرا من قبيل الإعلان فتدبر ط .

أقول : لا نسلم أن هذه الصيغة مما يجب على سامعها الرد إذ لا خطاب فيها ، وليست من الصيغتين السابقتين وإلا لوجب الرد أيضا على من سمعها من الإنس ، ويحتاج إلى نقل صريح والظاهر عدمه ، فلا يجب على الجن بالأولى ، بل هي لمجرد الدعاء كما هي في التشهد وكما في الصيغة التي اختارها بعض أصحاب أبي يوسف كما مر تأمل .




الخدمات العلمية