الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 103 ] ( باب الجنائز )

( وإذا احتضر الرجل وجه إلى القبلة على شقه الأيمن ) اعتبارا بحال الوضع في القبر ; لأنه أشرف عليه ، والمختار في بلادنا الاستلقاء ; لأنه أيسر لخروج الروح والأول هو السنة ( ولقن الشهادتين ) لقوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 104 ] { لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله } والمراد الذي قرب من الموت ( فإذا مات شد لحياه وغمض عيناه ) بذلك جرى التوارث ، ثم فيه تحسينه فيستحسن .

التالي السابق


( قوله : لأنه أيسر ) لم يذكر فيه وجه ولا يعرف إلا نقلا ، والله أعلم بالأيسر منهما ، ولا شك أنه أيسر لتغميضه وشد لحييه ، وأمنع من تقوس أعضائه ، ثم إذا ألقي على القفا يرفع رأسه قليلا ليصير وجهه إلى القبلة دون السماء ( قوله : والأول هو السنة ) أما توجيهه { ; فلأنه عليه السلام لما قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور فقالوا توفي وأوصى بثلثه لك ، وأوصى أن يوجه إلى القبلة لما احتضر ، فقال عليه السلام أصاب الفطرة ، وقد رددت ثلثه على ولده } رواه الحاكم .

وأما أن السنة كونه على شقه الأيمن فقيل يمكن الاستدلال عليه بحديث النوم في الصحيحين عن البراء بن عازب عنه عليه الصلاة والسلام قال { إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل : اللهم إني سلمت نفسي إليك ، إلى أن قال : فإن مت مت على الفطرة } وليس فيه ذكر القبلة ، وما روى الإمام أحمد عن أم سلمى قالت اشتكت فاطمة رضي الله عنها شكواها التي قبضت فيها فكنت أمرضها ، فأصبحت يوما كأمثل [ ص: 104 ] ما رأيتها ، وخرج علي لبعض حاجته فقالت : يا أمه أعطني ثيابي الجدد ، فأعطيتها فلبستها ، ثم قالت : يا أمه قدمي لي فراشي وسط البيت ، ففعلت واضطجعت فاستقبلت القبلة ، وجعلت يدها تحت خدها ، ثم قالت : يا أمه إني مقبوضة الآن وقد تطهرت فلا يكشفني أحد ، فقبضت مكانها فضعيف ، ولذا لم يذكر ابن شاهين في باب المحتضر من كتاب الجنائز له غير أثر عن إبراهيم النخعي قال " يستقبل الميت القبلة " وعن عطاء بن أبي رباح نحوه بزيادة " على شقه الأيمن ما علمت أحدا تركه من ميت " ، ولأنه قريب من الوضع في القبر ومن اضطجاعه في مرضه .

والسنة فيهما ذلك فكذا فيما قرب منهما . وحديث { لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله } أخرجه الجماعة إلا البخاري عن الخدري . وروي من حديث أبي هريرة وأخرج مسلم نحوه سواء ( قوله : والمراد الذي قرب من الموت ) مثل لفظ القتيل في قوله عليه السلام { من قتل قتيلا فله سلبه } .

وأما التلقين بعد الموت وهو في القبر فقيل يفعل لحقيقة ما روينا ، ونسب إلى أهل السنة والجماعة وخلافه إلى المعتزلة . وقيل لا يؤمر به ولا ينهى عنه ويقول : يا فلان يا ابن فلان اذكر دينك الذي كنت عليه في دار الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ولا شك أن اللفظ لا يجوز إخراجه عن حقيقته إلا بدليل فيجب تعيينه .

وما في الكافي من أنه إن كان مات مسلما لم يحتج إليه بعد الموت وإلا لم يفد يمكن جعله الصارف : يعني أن المقصود منه التذكير في وقت تعرض الشيطان وهذا لا يفيد بعد الموت .

وقد يختار الشق الأول والاحتياج إليه في حق التذكير لتثبيت الجنان للسؤال فنفي الفائدة مطلقا ممنوع . نعم الفائدة الأصلية منتفية . وعندي أن مبنى ارتكاب هذا المجاز هنا عند أكثر مشايخنا هو أن الميت لا يسمع عندهم على ما صرحوا به في كتاب الأيمان في باب اليمين بالضرب . لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتا لا يحنث ; لأنها تنعقد على ما يفهم ، والميت ليس كذلك لعدم السماع . وأورد قوله صلى الله عليه وسلم في أهل القليب أقول منهم وأجابوا تارة بأنه مردود من عائشة رضي الله عنها قالت : كيف يقول صلى الله عليه وسلم ذلك والله تعالى يقول { وما أنت بمسمع من في القبور } { إنك لا تسمع الموتى } وتارة بأن تلك خصوصية له صلى الله عليه وسلم معجزة وزيادة حسرة على الكافرين ، وتارة بأنه من ضرب المثل كما قال علي رضي الله عنه .

ويشكل عليهم ما في مسلم { إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا } اللهم إلا أن يخصوا ذلك بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال جمعا بينه وبين الآيتين فإنهما يفيدان تحقيق عدم سماعهم ، فإنه تعالى شبه الكفار بالموتى لإفادة تعذر سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى ، إلا أنه على هذا لا ينبغي التلقين بعد الموت ; لأنه يكون حين إرجاع الروح فيكون حينئذ لفظ موتاكم في حقيقته ، وهو قول طائفة من المشايخ ، أو هو مجاز باعتبار ما كان نظرا إلى أنه الآن حي ، إذ ليس معنى الحي إلا من في بدنه الروح ، وعلى كل حال يحتاج إلى دليل آخر [ ص: 105 ] في التلقين حالة الاحتضار ، إذ لا يراد الحقيقي والمجازي معا ولا مجازيان ، وليس يظهر معنى يعم الحقيقي والمجازي يعتبر مستعملا فيه ; ليكون من عموم المجاز للتضاد ، وشرط إعماله فيهما أن لا يتضادا .

ثم ينبغي في التلقين في الاحتضار أن يقال بحضرته وهو يسمع ولا يقال له قل . قالوا : وإذا ظهر منه كلمات توجب الكفر لا يحكم بكفره ويعامل معاملة موتى المسلمين حملا على أنه في حال زوال عقله ، ولذا اختار بعض المشايخ أن يذهب عقله قبل موته لهذا الخوف ، وبعضهم اختاروا قيامه حال الموت ، والعبد الضعيف مؤلف هذه الكلمات فوض أمره إلى الرب الغني الكريم متوكلا عليه طالبا منه جلت عظمته أن يرحم عظيم فاقتي بالموت على الإيمان والإيقان { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ثم يقول مغمضه بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اللهم يسر عليه أمره ، وسهل عليه ما بعده ، وأسعده بلقائك ، واجعل ما خرج إليه خيرا مما خرج عنه .




الخدمات العلمية