الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وإن ضرب أكثر من أربعين بالنعال وغير ذلك فمات ، فديته على عاقلة الإمام دون بيت المال : لأن عمر أرسل إلى امرأة ففزعت فأجهضت ذا بطنها فاستشار عليا ، فأشار عليه أن يديه ، فأمر عمر عليا ، فقال عمر : عزمت عليك لتقسمنها على قومك . ( قال المزني ) رحمه الله : هذا غلط في قوله : إذا ضرب أكثر من أربعين فمات فلم يمت من الزيادة وحدها . وإنما مات من الأربعين وغيرها فكيف تكون الدية على الإمام كلها وإنما مات المضروب من مباح وغير مباح ، ألا ترى أن الشافعي يقول : لو ضرب الإمام رجلا في القذف إحدى وثمانين فمات ، أن فيها قولين : أحدهما : أن عليه نصف الدية . والآخر : أن عليه جزءا من أحد وثمانين جزءا من الدية . ( قال المزني ) : ألا ترى أنه يقول : لو جرح رجلا جرحا ، فخاطه المجروح فمات فإن كان خاطه في لحم حي ، فعلى الجارح نصف الدية : لأنه مات من جرحه ، والجرح الذي أحدثه في نفسه . فكل هذا يدلك إذا مات المضروب من أكثر من أربعين فمات : أنه بهما مات ، فلا تكون الدية كلها على الإمام : لأنه لم يقتله بالزيادة وحدها ، حتى كان معها مباح ، ألا ترى أنه يقول فيمن جرح مرتدا ثم أسلم ثم جرح جرحا آخر فمات : أن عليه نصف الدية : لأنه مات من مباح وغير مباح . ( قال المزني ) رحمه الله : وكذلك إن مات المضروب بأكثر من أربعين من مباح وغير مباح " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وجملته : أن الإمام إذا جلد في الخمر أكثر من أربعين ، فمات المحدود لم تخل حاله فيه من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يستكمل فيه الحد والتعزير ، فيجلده ثمانين ، لا يزيد عليها ولا ينقص منها ، فيضمن نصف ديته : لأنه مات من حد واجب ، وتعزير مباح يسقط من ديته النصف : لأنه في مقابلة الحد الواجب . ولزم من ديته النصف : لأنه من مقابلة التعزير المباح .

                                                                                                                                            فإن قيل : لم ضمن ما قابل التعزير مع إباحته ؟ قيل : لأن المباح منه ما لم يفض إلى التلف ، فإذا أفضى إليه صار غير مباح ، فضرب الزوج امرأته مباح له ما لم يفض [ ص: 417 ] الضرب إلى تلفها ، فإن أتلفها ضمنها ، كذلك ضرب التعزير .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يستكمل الحد وبعض التعزير ، فيجلده فوق الأربعين ودون الثمانين ، فإن جلده خمسين فمات ، ففي قدر ما يضمنه من ديته قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يضمن نصف ديته اعتبارا بالنوع : لأنه مات من واجب وغير واجب ، ولم يعتبر العدد كما لا يعتبر في الجراح . فإن رجلا لو جرح رجلا جرحا ، وجرحه الآخر عشرا ، كان في الدية سواء ، ولا يقسط على أعداد الجراح اعتبارا بعدد الجناة ، كذلك في الضرب .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يضمن خمس ديته اعتبارا بعدد الضرب : لتعلق الضمان بعشرة من خمسين : لأن لكل واحد من العدد تأثيرا في تلفه ، والضرب متشابه فسقطت الدية عليه ، وإن لم تتقسط على عدد الجراح : لأن للجراح مورا في اللحم يختلف ولا يتشابه ، ولذلك ما جاز أن يموت من جراحه ويعيش من عشرة ، فافترق لذلك ضمان الضرب وضمان الجراح . فعلى هذا : لو ضربه ستين فمات ضمن نصف ديته في أحد القولين إذا قيل باعتبار النوع ، وضمن ثلث ديته في القول الثاني إذا قيل باعتبار العدد ، وعلى هذا القياس في السبعين إذا مات الثمانين ضمن نصف ديته على القول الأول ، وثلاثة أسباعها على القول الثاني .

                                                                                                                                            أما إذا مات من الثمانين فيضمن نصف ديته على القولين معا : لأنه قد تساوى فيه ضمان النوع وضمان العدد .

                                                                                                                                            القسم الثالث : أن يزيد في جلده ، على الاستكمال للحد والتعزير ، فيجلده تسعين فيموت ، ففي قدر ما يضمنه من ديته قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يضمن نصف ديته اعتبارا بعدد النوع : لأنه مات من واجب وغير واجب ، ولم يقع الفرق بين ما أبيح من ضرب التعزير ، وما لم يكن من الزيادة عليه .

                                                                                                                                            القول الثاني : أنه يضمن خمسة أتساع ديته اعتبارا بعدد الضرب ، ثم على هذا المصير في الزيادة والنقصان . ولا يضمن في الأقسام الثلاثة جميع ديته على القولين معا .

                                                                                                                                            فأما المزني فإنه لما قال الشافعي : فديته على عاقلة الإمام ، توهم أنه أراد جميع الدية فقال : لم يمت من الزيادة وحدها ، وإنما مات من الأربعين وغيرها ، فكيف تكون الدية على الإمام كلها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية